في مرحلة امتدت من مطلع الثمانينات وحتى بداية التسعينات كان المشهد في أي من ميادين القاهرة يبدو كلوحة عبثية ، موقف أوتوبيس تتزاحم فيه الأجساد بحثًا عن فرصة لوضع قدم داخل علبة صفيح ، وأصوات ندءات الباعة الجائلين تلعب دور الموسيقى التصويرية ليغطي عليها بين حين وآخر صوت آخر قادم من سماعة ستيريو ضخمة وضعها بائع فوق فرشة شرائط كاست مقلدة “مضروبة” .
نرشح لك : موسيقى الجيل (4) | “لولاكي” أغنية واحدة تكفي !
دون قصد تحولت مواقف الأوتوبيس والميكروباص إلى سوق رسمية لشرائط الكاسيت “المضروبة” ، كانت النسخة تباع بجنيهين في فترة تسيدت خلالها الأغنية الشعبية ، بضاعة رخيصة وغناء موجه لفئة تحولت بفعل فاعل إلى أغلبية مُطلقة ، نفس الجمهور الذي نصب عادل إمام بطلًا شعبيا في السينما ، تذوق وبنفس راضية أصوات مثل عبد الإسكندراني ، وحمدي باتشان صاحب أسطورة “الأساتوك” ، إلى أن فرض حسن الأسمر إسمه بقوة على الساحة بألبومه الشهير “توهان” ثم أيقونته المعروفة “كتاب حياتي” ، قدم الأسمر صورة مختلفة للمطرب الشعبي الذي يرتدي نظارة شمسية سوداء على بوستر ألبومه مخفيًا وحمة فوق جبينه أصبحت ماركة مسجلة لصاحبها فيما بعد ، في حين انهار عرش عدوية ملك الأغنية الشعبية القادم من السبعينات وذلك بالتزامن مع الحادث الشهير الذي تعرض له في نهاية الثمانينيات .
تربع الموال والقصة على عرش صناعة هذا الفن ، وبايعة الوافدين من الأقاليم والقاهريين بحماس مُدهش. فبرز إسم عبده الإسكندراني ويوسف شتا، حول الإثنان الأغنية الشعبية لموال فلاحي مُجرد .
لم أحب الأغنية الشعبية المنتمية لتلك المرحلة على الإطلاق ، كثيرون من أبناء جيلي عزفوا عن سماعها باعتبارها موسيقى موجهة لفئة الصنايعية وسائقي الميكروباص شكلًا ومضمونًا . ارتبطت الأغنية الشعبية في ذهني بمشهد غرزة على الطريق الزراعي يلتقي فيها سائقوا النقل تحت رعاية معلمة تشبه هيام طعمة في أفلام المقاولات.
كان هناك فجوة واضحة بين الأغنية الشعبية المصرية التي قدمها محمد رشدي والعزبي ثم منحها عدوية قدرا من الجدل والجرأة ، وبين حالة الندب والنواح والموعظة الموجهة للحشاشين والمساطيل باعتبارهم جمهور مستهدف من مطربي تلك المرحلة . ثمة افتقاد واضح للبهجة في الكلمة واللحن ، وغياب للوجه المقبول لدى جمهور لن يقبل بسماع مكوجي رجل ببدلة مزركشة ، كان لابد من حل تصيغه دماغ ناشفة تفرض ذوقًا جديدًا ، ولكن أحداً لم يتوقع أن يكون هذا الحل صعيدي .
طفلة صغيرة اسمها بسمة كانت سببًا في تغيير شكل الأغنية الشعبية المصرية .. ليست مبالغة . في صيف 1989 كانت بسمة برفقة والدها في أحد الاستوديوهات لتشارك في تسجيل إعلان ألبان ، والد بسمة لديه مشكلة حقيقية تتمثل في شقيقه الأصغر الباحث عن حلم الغناء رغم رفض عائلته التي تعد أحد أكبر عائلات مغاغة بالمنيا ، بل أن والده عمدة مغاغة هدد الشقيق الأصغر بالطرد من المنزل إذا استمر في الغناء وراء “العوالم والغوازي” في أفراح القرى والنجوع ، كان لابد من طريقة لإقناعه بالتخلي عن الفكرة ، ولن يجد والد بسمة أفضل من حميد الشاعري الواقف أمامه الأن كي يطلب منه تولي تلك المهمة .
” أستاذ حميد شقيقي موهوم بالغناء ، صوته وحش ، ووالدي تعب من محاولات اثنائه عن الفكرة ، العائلة كلها ترفض مايفعله ، هل من الممكن أن تسمع صوته وتقنعه يفضها سيرة ؟ ”
رد حميد : قوله يعدي عليا يوم الجمعة الساعة 5 في ستوديو أمريكانا .
في تمام الخامسة مساء دخل ستوديو امريكانا شاب يدعى “عبد الحكيم ” ، عرف حميد ورفاقه بنفسه ، وبين الحضور جلس الشاعر عادل عمر والمخرج والمنتج طارق الكاشف ، طلب حميد من عبد الحكيم الغناء ، فقدم موال لعدوية خطف سماع الحضور ، تحمس حميد وبدأ يعزف على الأورج ، وعبد الحكيم يغني لعبد الغني السيد ، ثم عبده السروجي ، والنتيجة تصفيق حاد من الحضور واعجاب مبالغ بهذا الشاب الصعيدي الموهوب الذي قرر حميد فيما بعد أن يجري تعديلا بسيطًا على الإسم ليصبح سهلا في التداول .
انت في حاجة لإسم فني ، أنا اسمي “عبد الحميد ” ، فأصبحت “حميد” ، إذن فليكن اسمك الجديد “حكيم” ، ما رأيك ؟
يحكي حكيم عن تلك الأيام بعد سنوات النجاح والشهرة : ” قال لي حميد منهيا هذا اللقاء ، تعالى يوم الثلاثاء القادم إلى ستوديو أم ساوند ، ذهبت أيضا في الموعد وكان في انتظاري وقتها هو وفايز عزيز مدير انتاج شركة سونار ، ومهندس الصوت أحمد عزت ، لا أذكر أنني قابلته بعدها ، ولكنها كانت أول مرة أقف فيها أمام ميكروفون الاستوديو ، غنيت كما لم أغن من قبل ، مواويل لعدوية وغيره ، وسجل عزت صوتي ، واحتفظ به حميد كنواة لمشروع جديد يقنع به المنتجين” .
كان صوت حكيم بداية لمشروع جديد ضمن مشاريع حميد الشاعري لتغيير شكل الأغنية ، قبلها بعام تقريبًا بدأ حميد تجربته بتقديم أصوات مثل إيهاب توفيق ، ومصطفى قمر ، مع استمرار تعاونه مع عمرو دياب وعلاء عبد الخالق ، تغير شكل الأغنية الرومانسية وبدأت تجربة “موسيقى الجيل” تترسخ في مسامع الجمهور ، وحان الوقت لتصل تلك الثورة للأغنية الشعبية .
يقول حميد : “الأغنية الشعبية كانت بعيدة كل البعد عن التطور الموسيقي في العالم ، لم تعرف الأرتام ولا الهارموني ولا التوزيع الموسيقي عمومًا بشكله الحديث ، رغم أن الأغنية الشعبية رحبة تتسع لكل ذلك” .
استمرت مرحلة الإعداد عامين تقريبًا ظهر بعدها الألبوم الأول لحكيم حاملًا اسم “نظرة” ، وكانت أغنية “بيني وبينك” دخول مفاجيء لصوت يغير ملامح الأغنية الشعبية ، توارى حسن الأسمر وأعمدة مدرسة “النكد” الشعبي أمام مطرب تتوالى طبعات شريطة واحدة تلو الأخرى ، وكأننا أمام خط انتاج في مصنع لتعبئة “الفرفشة” في “قزايز” ، أصبح حكيم أيقونة للفرحة والبهجة ، وبدأ شباب الجامعات يسمعون “حكيم” الذي ظهر كفقرة في حفلات الجامعات مع حميد وعلاء عبد الخالق وعلي حميدة ومصطفى قمر وإيهاب توفيق وحنان وآخرين .
https://www.youtube.com/watch?v=-og7_Nq_yEY
سمعنا لأول مرة مصطلح الأغنية الشعبي “الشيك” ، توضيحًا لأناقة في الشكل – شكل المطرب- ، وكذلك في المضمون ، حتى أن كلمات أمل الطائر وألحان حسن إش إش التي سيطرت على الألبوم الأول كانت تخاطب كل الطبقات إنطلاقا من نظرية تقول : إن داخل كل مواطن مصري ، كائن شعبي يظهر وقت الفرفشة “.
رَكِب حكيم السوق بلغته ، وفي عام 1994 صدر ألبومه الثاني “نار” الذي قدم جرعة مكثفة من الأغاني الراقصة ، واستعرض حميد الشاعري عضلاته الموسيقية في التوزيع مقدمًا إيقاعًا جديدا يحمل براءة اختراعه حتى الأن وهو “المقسوم” ، نجاح صاخب يقول عنه حكيم : ألبوم نار كان بالنسبة لي تأكيدا لنجاح مشروعي ، أصبحت نجمًا حقيقيا بعده ، الناس كانت تسلم علي في الشوارع ، كنت أحيي في الليلة الواحدة ثلاثة أفراح ، غير الغناء يوميًا في الملاهي الليلية والكازينوهات ، وعرفت معه السفر إلى أوروبا والغناء للجاليات العربية هناك ، غنيت في ألمانيا وهولندا وإيطاليا وطرت إلى أمريكا ، كان الناس مهووسون بهذا اللون وكان إسمي يتردد من دولة لأخرى ، ولقبوني بأسد النيل ، لا أعرف سبب اللقب ولكن متعهد حفلات لبناني قال لي : أنت صوتك قوي كزئير الأسد ، هذا لقبك الأنسب ” .
بعد عرض كليب “نار” في التليفزيون ، ثار بعض شيوخ الأزهر واتهموا حكيم بالترويج لعبادة النار ليس لسبب منطقي سوى ظهور بعض الشباب والفتيات في الكليب وهم يرقصون حول النار بطريقة ساذجة أشبه بطقوس الهنود الحمر ، تم منع الكليب لفترة ، إلا أن حكيم تجاوز الأزمة بذكاء فصور أغنية “الحق عليه” وظهر خلالها فوق باراشوت يطوف الأقصر ويبرز معالمها ، فأذاع التليفزيون الكليب بكثافة خاصة على القناة الفضائية المصرية الموجهة للعالم باعتباره وسيلة ترويج سياحي مؤثرة ، والحقيقة أنه كان كذلك بل وساهم في احترام الإعلام وتقديره لشخص حكيم الذي يروج لصورة أكثر تحضرًا للمطرب الشعبي المصري ، حتى أن عِلية القوم والوزراء كانو يطلبونه كأول وأهم “نمرة” في أفراح أبنائهم وبناتهم ، ولكن أكبر دليل لنجاح حكيم من وجهة نظري وقتها هو قبول والدي أن أشغل ألبوم “نار” بصوت مرتفع في سيارته ، بل أنه لم يخجل من أن يحتفظ بالشريط ليسمع موال “الصبر” وهو يدندن : “أنا اللي الدنيا ظالماني وواخداني في ليل الأاااااه ” .