استمعت مصادفة إلي مداخلة من مواطن «شريف»، مع إعلامي (أستاذ علوم سياسية) عبر برنامجه الذي يذاع على محطة إذاعية حكومية مصرية، وبعد أن بدأ «المواطن» حديثه بالإشادة بالبرنامج (وأنه يقدم إعلامًا هادفًا) بعيدا عن إعلام الخناقات (في إشارة إلى بعض برامج «التوك شو» الليلية)، سأل المواطن – بعد أن أشاد وأسهب بالحكومة وإنجازاتها – سؤالًا أظنه مقصودًا، والسؤال هو: هل يوجد مدرسة أو مستشفى ملحقة بأي من المشروعات العمرانية الجديدة التي تفتتحها الحكومة؟
وبسرعة أجاب المواطن (بنفسه) ونفى بحسم (العالم الواثق) وجود أي مستشفى أو مدرسة، مستطردًا في غضب أنها من ضرورات حياة أي مجتمع عمراني جديد، وكان من اللازم أن تتنبه الدولة إلى ذلك. صمت الدكتور (الإعلامي) لحظات تحدث بعدها بنبرة لا تخلو من حيرة، لم يسعفه فيها علمه الغزير أو تحليلاته السياسية المعتبرة، ولم يساعده أو يدعمه فريق إعداد برنامجه (الذي لا أظن وجوده أصلًا)، وهرب من إجابة حاسمة تريح المواطن وتزيل التباسًا يربك المستمعين ويفقدهم الثقة في الدولة ومشروعاتها، وقال إنه (يعتقد) بوجود مثل هذه المنشآت الخدمية المهمة والحيوية، قالها بأداء لا يعكس ثقته بإجابته.. إجابة جعلته – دون عمد – يجسد واحدًا من أبرز أسباب أزمة الإعلام المصري الراهنة.
كان من الضروري ألا يمر سؤال المواطن بهذه البساطة، ودون إجابة حاسمة وواضحة مبنية على معلومة من مصدر موثوق، الأمر لا تصلح معه التحليلات السياسة أو الاعتقاد، ولا يحتمل مواءمة فكرية.
هنا يبرز دور الإعلامي «المتعلم»، الذي درس في جامعته أن من أبجديات مهنته الاستناد إلى مصدر، وتعلم في صحيفته (أو مؤسسته الإعلامية) قوة المعلومة الموثقة من مصدرها وسحرها كأبرز وسائل الإقناع والتأثير في الجماهير.
إن إجابة الدكتور «السياسي»، تفتح (دون قصد منه) مجالًا لإرباك الرأي العام، وتؤجج مشاعر انعدام الثقة فيما تنجزه الدولة (وهذا بالطبع أبعد ما يكون عن الرسالة الإعلامية لإذاعة حكومية أو لإعلامي يقدم نفسه على أنه من مؤيدي النظام الحاكم).
ما حاولت أن نرصده معًا، هو خطأ إشغال شخص (غير متخصص) بالإعلام وهجرته خانة «الضيف» المحترم والمؤثر في الجمهور ليس كأكاديمي في مجاله فقط، بل وأيضًا كسياسي بارع ومتزن و«قائد رأي» مثالي في لحظة غاب فيها صوت العقل عن معظم قادة الرأي في الحياة السياسية المصرية، ومقالي أبعد ما يكون هدفه أن يتصيد خطأ، بل هي رسالة تصويب لأخطاء كثيرة تنتشر في وسائل الإعلام.
ونموذج «الدكتور الضيف» تكرر مع كثير من الضيوف المهمين (وغير المهمين) في البرامج التلفزيونية في الفضائيات المصرية، التي استثمرت جماهيريتهم وأفردت لهم المساحات الشاسعة ليصولوا ويجولوا دون رابط أو رقيب، منهم من يمكن أن تحترم وجوده وتقدره، ومنهم عشرات «الأشباه» ممن شوهوا المشهد الإعلامي وجعلوا المهنة «رذيلة» نتخفى عند ممارستها، ونتحرج في الإفصاح عن اسمها أمام الناس كأنها «عورة» يجب سترها.