“وفي اللحظة دي بالذات بشكر القدر اللي خلَّاني متقبلة أركب عربية الترحيلات في محاولة أو كثمن إن المكان اللي عايشين فيه كله ما يبقاش عربية ترحيلات، إنك تبقى مستعد تدفع جزء من عمرك في الضلمة علشان تنقذ الأجزاء الباقية”..
مهما تخيّلنا كيف يكون إحساس من يتم اعتقاله منقاداً نحو صهريج كبير يُدعى “عربة ترحيلات” فإننا لن نصل إلى ذلك الشعور اللعين الممزوج بالخوف والترقّب والألم والضياع والانجراف نحو المجهول، ولكن قد نعيش جزءاً منه أو ما يقرب من حقيقته مع الكاتب أحمد خير الدين في كتابه الأول بعنوان “من الشباك”، والشباك المقصود هو شباك سيارة الترحيلات، ذلك المجتمع الشبيه بمجتمع السجون، تتلاصق أو تتلاحم فيه الأجساد، محاولةً أن تتكيَّف مع التكدس والازدحام، وليس له منفذ إلى الخارج سوى شباك يدخل منه ضوء غير ذي قيمة، ويخرج أكثر منه حِزَمٌ من نداءات حزينة واستغاثات عقيمة، وأقصى ما يمكن أن يفعله السجين هو الدق على الباب والمحافظة على نفسه من الانقطاع!
“من الشباك”، مجموعة قصصية في ثوب القصص القصيرة تتميز بالسرد البسيط بلغةٍ فصحى سلسة مشوقة، صحيح أن تلك القصص وقائع حقيقية قصها أبطالها بقلم “أحمد خير الدين”، ولكن “خير” نسجها في جمل قصيرة وعبارات موجزة تُوصل المعنى دون تعقيد وتؤدي إلى المغزى ببلاغة عجيبة تمس القلب، وتخلق مواقف مؤثرة تعيشها بذاتك في دقائق القراءة، ولست كمجرد قارىء يتلو نصاً، أو مجرد شاهد أو مشاهد ينتظر نهاية مشهد عابر..
يُجَسِّد مشاعر ركَّاب العربة التي تتفاوت بين من يعتبر رحلة الترحيل فرصة ليشاهد العالم خارج السجن، وبين من يعتبرها منحة كاذبة طالما الجسد مقيد اليدين وراء القضبان، في جو من إهانة الكرامة والتنكيل، ومحاولة الاعتياد والتكيف بالسخرية من خلال غناء أغاني لا تليق بالموقف مثل: “فيها حاجة حلوة” وَ “الحياة بقى لونها بمبي” ، أو تهوين الرحلة على المرتعدين بحس الفكاهة والضحك، مع خلفية موسيقية مقيتة من صرير وقرقعة باب عربة الترحيلات في كل مرة يفتح ويغلق فيها، مستدعياً من الذاكرة صوت فتح وإغلاق باب الزنزانة في السجن..
يسرد كيف هي الأحاسيس التي تطغى على نزيل عربة الترحيلات بمجرد أن يُحاط جسده بجدران معدنية تشع حرارة في الصيف كَفُرن، متعلِّقاً بشباك يعيق سلكه مزدوج الطبقات سهولة التواصل مع العالم الخارجي، وكيفية شغف نزلاء العربة بمعرفة وجهتهم وتطلّعهم من الشباك لاستكشاف في أي الطرق يسيرون، عن إحساس صحافي محبوس فيها بينما تنقلب الدنيا مظاهرات في الخارج وهو لا يملك من أمره شيئًا، وعن طالب أو طالبة يلف السبع لفَّات لتعنت الجهات المعنية في مكان انعقاد لجنة امتحانه، وعن فتيات معتقلات يُعاملن كمختطفات عند إطلاق سراحهن فيُتركن في وسط الصحراء..
القصص كلها كانت بصيغة المتكلم، تنوعت بين الحكي من داخل العربة، ومن خارجها، وكيف كادت أن تُزهق روح السجين في حر أغسطس، أو كيف أزهقت بالفعل روح غيره، كيف يَنظر إليها إذا ما مرت في الشارع بجانبه بعدما أصبح حُرا طليقا، قد تستغرق في قراءة ألوان من المعاناة في قصة، ثم تكتشف بعد صفحة أو صفحتين أن من واجه تلك المعاناة هي فتاة وليست شاب، لم يُغفل اللمحات الإنسانية، فكما سلَّط الضوء على أفراد الشرطة المرتشين لتمرير إعاشة أو بعض من الماء، ذكر أيضاً كيف يكون السجان ملاكاً حارساً، وكما يوجد ضابط غليظ القلب فيوجد آخر لين الطبع يُبدي تأثراً أو تعاطفاً مع وضع المساجين..
سرد القصص كما جاء على لسان نزلاء سيارة الترحيلات من معتقلين في مظاهرة، أو طفل قد ارتدى قميصاً طُبِعَ عليه “وطن بلا تعذيب”، أو صحفي، أو حتى ضابط وُضِع حول القضبان لجُرمٍ ما، جاءت أيضاً بعض القصص على لسان أب يسعى وراء عربة الترحيلات ليعلم الوِجهة التي سيؤول إليها مآل ابنه، وأم تلهث وراء ابنها بعد الإفراج عنه من سجن في شمال الجمهورية، في كعب داير لمدة شهر لتتسلَّمه من القسم التابع إليه في جنوب الجمهورية..
كان يبدأ سرد القصة بفقرات استهلالية من ذاكرة الطفولة، أو من مواقف مشابهة، مما أدى في بعض الأحيان إلى عدم ارتباط واضح بما سيتلوها من أحداث، مما قد يدفع القارئ إلى إعادة قراءة الفقرة أكثر من مرة لاستيعاب مراد الكاتب، اعتمد خير العربية الفصحى في لغة الكتاب، باستثناء آخر قصة تحصَّل عليها بجواب كُتِبَ بالعامية المصرية من أحد المعتقلات السابقات، ولم يذكر أسماء أبطالها، مما أعطى انطباعاً أنه عمل أدبي وليد عقل الكاتب، وبالرغم من أن القصص من واقع الاعتقال والتنكيل والتعذيب؛ إلَّا أن المجموعة القصصية ممتازة كبداية، أستطيع أن أقول أن أحمد خير الدين سيكون بارعاً إذا ما قام بكتابة القصص القصيرة، إذ إنه يمتلك أسلوبًا أدبيًا مميزًا يؤهله للنبوغ في ذلك النوع من الأدب الذي يغيِّر نظرة القارئ إلى محيطه، أو يعيد ترتيب وتعريف المفاهيم لديه..
من الشباك: مجموعة قصصية
الكاتب: أحمد خير الدين
الناشر: دار الشروق
تصميم الغلاف: كريم آدم