نقلا عن “المصري اليوم”
قرر مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية إهداء دورته السادسة التى تفتتح يوم 16 مارس إلى تحية كاريوكا. شكلت تحية حالة خاصة فى تاريخنا الفنى والسياسى، وكانت أول راقصة تحظى بتلك المكانة الاستثنائية فى القرن العشرين، الكل كان يرى فيها الجدعنة والشهامة والمروءة، فى زمن عزت فيه هذه القيم، فصارت هى المستحيل الرابع بعد الغول والعنقاء والخل الوفى.
لو عدت بنظرة عين الطائر للأرشيف الفنى لتحية كاريوكا لاكتشفت أنه أبدا لم يكن فقط فنيا، ستجدها حاضرة فى كل مناحى الحياة ولها قصة تروى مع الجميع وفى كل العهود منذ الملك فاروق وحتى حسنى مبارك مرورا بعبدالناصر والسادات، ناهيك عن حكايتها مع جميع الفنانين: أم كلثوم وعبدالوهاب وشادية وعبدالحليم ورشدى أباظة، وحتى الكومبارس، كانت أول من يدافع عن حقوقهم، وتحرص على أن تشاركهم إفطارهم وغذاءهم فى الاستديو، وتطمئن أنهم قد أحضروا لأبنائهم ملابس العيد،وكأنها وزارة شؤون اجتماعية متنقلة.
تتعامل بكل الأسلحة حتى تحقق هدفها ولكنها أبدا لا تأتى على ضعيف، ورغم ذلك فإن المفارقة هى أن عطاء تحية الاجتماعى واكبه حضور فنى استثنائى، فقد حظيت بالمركز الأول كأفضل فنانة عربية، ولم يتنبه الإعلام العربى لهذا الإنجاز التاريخى.
لست أدرى لماذا فاتنا جميعا- أتحدث عن معشر النقاد- أن نتناول بالتحليل، تحية كاريوكا التى احتلت المكانة الأولى فى مهرجان (دبى) فى استفتاء أفضل مائة فيلم عربى الذى عُقد فى نهاية 2013، حيث اختار لها المشاركون من سينمائيين ونقاد، ستة أفلام احتلت مكانة الأفضل عربيا، وهى «شباب امرأة» و«الفتوة» و«السقا مات» و«مرسيدس» و«خللى بالك من زوزو» و«الكرنك» فسبقت بهذا الرقم الجميع.
إنها تركيبة إنسانية وفنية خاصة جدا، تحية كاريوكا فى بساطة أراها وقد أخذت من النهر عذوبته والبحر عنفوانه والمحيط لا نهائيته.. تحب بعنف وتواجه بعنف وتمنح بسخاء!!
«تحية» الفنانة هى بالضبط «تحية» الإنسانة.. إنها تتعايش مع الشخصيات ولا تمثلها ولهذا يصدقها الناس أمام الكاميرا وبعيداً عنها.. لأنها فنانة لا تعرف المكياج.. مكياج الوجه والإحساس.. إنها نبع من العطاء المتجدد معينه لا ينضب!!
عطاء «تحية كاريوكا» يتجاوز مجرد الإبداع الفنى، إنه تفاعل إنسانى فى أغلب المجالات السياسية والاجتماعية والوطنية.. قبل ثورة يوليو 1952 كانت تقف فى مواجهة الاستعمار وتهتف: يسقط المحتل. عندما قامت الثورة كانت لها بعض الآراء فى الممارسة السياسية ودخلت السجن السياسى لمدة 101 يوم بتهمة الانضمام إلى تنظيم يسارى اسمه «حدتو»، وهذه الكلمة اختصار لعنوان «حركة ديمقراطية للتحرير الوطنى» وداخل السجن لم تفقد المقاومة بل زادتها جدران السجن إصراراً وقادت المظاهرات من الزنزانة ورفعت شعار «ذهب فاروق وجاء فواريق» تقصد الضباط الأحرار!!
وبعد الإفراج عنها شاركت فى كل المناسبات الوطنية فلم تفقد أبداً إيمانها بالثورة رغم كل هذه الانتقادات التى وجهتها إليها وهكذا وقفت فى أول الصف فى كل الملمات التى عاشها الوطن مثل أسبوع التسليح، حروب 56 و67 و73 وكانت تحية هى أول من يتطوع فى الهلال الأحمر وآخر من يغادر الموقع.. أثناء الحصار الإسرائيلى للفلسطينيين فى بيروت كانت «تحية» أيضاً هى أول من يذهب إلى هناك لمؤازرة المناضلين الفلسطينيين!!
هذا التاريخ الوطنى الحافل لتحية كاريوكا لا ينافسه إلا تاريخها الفنى المرصع بعشرات من الأعمال الفنية العظيمة، فلقد قدمت المسرح السياسى الذى حمل اسمها من خلال فرقتها المسرحية وكان الفنان «فايز حلاوة» يكتب ويخرج ويشارك أيضاً بالتمثيل فى هذه المسرحيات التى تلعب بطولتها «تحية» وكان اسمها يكفى لكى يأتى الجمهور ويقطع التذكرة من أجل تحية وكثيرا ما اصطدمت تلك المسرحيات مع الرقابة.
قدمت «تحية كاريوكا» للسينما 117 فيلماً روائياً بدأتها عام 1935 بفيلم «الدكتور فرحات» مع المخرج «توجو مزراحى» وقامت «تحية كاريوكا» فى هذا الفيلم بأداء تابلوهات راقصة.. تكررت أيضاً تلك التابلوهات فى أفلام «وراء الستار» لكمال سليم و«خلف الحبايب» لفؤاد الجزايرلى و«ليلى بنت الريف» لتوجو مزراحى.. فلقد كانت أغلب هذه الأفلام لا تخلو من رقصة أو أكثر.. وكانوا يستعينون بتحية كاريوكا الراقصة باعتبار أنها وقتها كانت تحمل صفة النجمة الصاعدة فى هذا المجال!!
تحية كاريوكا لا ترضى أبداً بالتكرار ولهذا سرعان ما تمردت على أن تظل تقدم نفس الصنف السينمائى، أرادت أن تخطو إلى ما هو أبعد، وأنشأت شركة للإنتاج أطلقت عليها اسم «أفلام الشباب» مع كل من المخرج «حسين فوزى» والفنان «حسين صدقي» وأنتجوا معاً فيلم «أحب الغلط» عام 1942 وفى هذا العام قدمت «تحية كاريوكا» للسينما أربعة أفلام روائية الثلاثة الباقية هى «الستات فى خطر» للمخرج «إبراهيم عمارة» و«أخيراً تزوجت» للمخرج «جمال مدكور» و«أحلام الشباب» للمخرج «كمال سليم» ويتأكد أن هذه الفنانة تجيد التمثيل بقدر إجادتها للرقص حيث لم تعد «تحية» تكتفى فقط بالرقص فى هذه الأفلام ولكنها تؤكد اسمها بجدارة أيضاً فى دنيا الإبداع كممثلة، لها طلة مختلفة أمام الكاميرا!!
ثم تأتى مرحلة فارقة وفيلم لا ينسى وهو «لعبة الست» إخراج ولى الدين سامح، وكان لى أكثر من لقاء مع «تحية كاريوكا» سجلت بعضها فى كتاب أصدرته عنها قبل نحو ربع قرن باسم «فنانة لا تعرف المكياج» سألتها عن دور «نجيب الريحانى» فى حياتها فأجابتنى قائلة:
قبل أن أصل إلى الأستاذ «نجيب الريحانى» أتذكر أستاذى «سليمان نجيب».. كان «سليمان نجيب» هو الأب الروحى والموجه لى.. كان يعلم أن الفنان لا يمكن أن يستغنى عن العلم ولهذا شجعنى على دراسة الإنجليزية والفرنسية وقال لى ينبغى أن أدرس الباليه وهذا ما فعلته بل إنه اتفق مع السيدة القديرة مدام «رطل» التى كانت وإلى مطلع الثمانينيات تتولى تدريب الأصوات الغنائية على فن الأداء.. ورغم أننى لم أكن غنيت ولم يكن أيضاً فى نيتى أن أغنى إلا أن «سليمان نجيب» ألحقنى عند مدام «رطل» وهو الذى رشحنى لمشاركة «نجيب الريحانى» بطولة «لعبة الست».. رفضت فى البداية خوفاً من الوقوف أمام هذا العملاق وقلت له إننى مشغولة بالتصوير فى فيلم آخر لحساب «توجو مزراحى» وتصور «سليمان بك»- تقصد سليمان نجيب- أننى أعترض على العقد وتعاقدوا معى على 2500 جنيه وهو أعلى رقم بمقياس تلك الأيام عام 1946!!
تتذكر «تحية كاريوكا» أول مرة وقفت أمام «نجيب الريحانى» لم تنطق كلمة واحدة عندما دارت الكاميرا، وحتى يتم تخفيف الموقف ولا تشعر تحية بحرج، داعب «نجيب» مخرج الفيلم «ولى الدين سامح» وقال له «معلش إحنا لسه ما خدناش على بعض أجل التصوير».. وبالفعل أرجأ «ولى الدين سامح» تصوير الفيلم، وهكذا تقول «تحية كاريوكا» أخذ «نجيب الريحانى» يحدثنى فى كل شىء إلا فيلم «لعبة الست»، كان حريصاً على أن ينسينى أننى سوف أقف أمام الكاميرا معه حتى أصبحنا صديقين، وبعد يومين أكمل المخرج التصوير وأكثر من مرة يهنئنى «نجيب» بصوت عال أمام الجميع حتى يشجعنى على الاستمرار فى الإجادة، وإذا حدث خطأ منى يعتذر هو مدعياً أن هذه هى غلطته!!
وتتذكر أيضاً «تحية كاريوكا» أن «نجيب الريحانى» رفض أن يحضر افتتاح الفيلم.. استشعر أن الفيلم لن يحقق نجاحاً مع الجمهور، وقالت لى: حضرت الافتتاح بمفردى وقابل الجمهور الفيلم أحسن استقبال وكان- ولايزال- هو أنجح أفلام «نجيب الريحانى» بعد «غزل البنات»، الذى توفى قبل أن يشاهده، ومن بعدها ظللنا أصدقاء.. وكانت صداقتى لنجيب الريحانى هى أكبر مكافأة لى وأكثر حتى من نجاح الفيلم!!
قبل أن تغنى «تحية كاريوكا» فى هذا الفيلم كان العرف السائد هو أن النجمات لا يغنين فى الأفلام إلا عن طريق- البلاى باك- حيث تغنى مطربة أخرى، وما عليهن إلا إيهام الناس بأن هذه أصواتهن، ولكن المخرج «ولى الدين سامح» حرص على أن تغنى «تحية كاريوكا» بصوتها.. وجاء لها بملحن وصديق وهو الموسيقار «محمود الشريف».. كان «الشريف» فى مطلع حياته الفنية قد التقى مع «تحية» فى صالة «بديعة مصابنى» وبينهما صداقة قديمة، ولهذا لم يكن هناك أدنى حرج، ورغم ذلك رفضت «تحية» أن تغنى فى البداية أمام الفرقة الموسيقية ووافقت على أن يصحبها «الشريف» بالعزف على العود على أن تظل الفرقة الموسيقية فى الخلفية وتم تسجيل أغنية «يا خارجة من باب الحمام» ولم تغن «تحية» بعدها حتى عندما طلب منها الموسيقار «محمد عبدالوهاب» غناء «قالوا البياض أحلى ولا السمار أحلى» رفضت وقالت له أغنى فقط من تلحين «محمود الشريف» وسجلت هذه الأغنية «سعاد مكاوى» بعد ذلك وصارت أشهر أغنيات سعاد مكاوى.. وتضحك «تحية» وتقول أصل أنا عشرية قوى، الشريف وفريد الأطرش ومحمد فوزى كنا نغنى ونرقص معاً عند «بديعة» دول عشرة عُمر، ماأقدرش أقول لأ لكن «عبدالوهاب» مش صاحبى، وهذه الأمور لا تتم وتنجح إلا بالصداقة!!
يأتى فيلم «لعبة الست» عام 1946 بنجاحه الضخم ليؤكد صدق هذه الفتاة السمراء صاحبة الحضور والتوهج والتى تقف مع العمالقة «نجيب الريحانى» و«مارى منيب» و«عبدالفتاح القصرى» و«بشارة واكيم» و«سليمان نجيب» والمشاهد التى تجمعها مع «نجيب الريحانى» فى لحظات تمردها هى من أهم المشاهد السينمائية التى تتضح فيها قدرات الممثل.. حيث إنها تقدم شخصية تتناقض فى مشاعرها الخارجية والداخلية فهى تحب «نجيب الريحانى» ولكن نداء الشهرة والفلوس يثير فى أعماقها هذه الحيرة التى برعت فى أدائها «تحية كاريوكا» وصدقها الناس ولايزالون رغم مرور أكثر من نصف قرن على هذا الفيلم فإنهم يستعيدون دائماً مشاهدته، بل إن «محمد صبحى» قبل ثمانية عشر عاما أعاد تقديم «لعبة الست» على خشبة المسرح!!
شاركت «تحية كاريوكا» فى بطولة أفلام كبار مطربى الأربعينيات، والبداية مع «فريد الأطرش» زميلها القديم فى صالة «بديعة مصابنى»، فيلم «أحلام الشباب» للمخرج كمال سليم عام 1942، مع محمد الكحلاوى عام 1944 فى فيلم «طاقية الإخفاء»، إخراج نيازى مصطفى، «ليلة الجمعة» عام 1945 مع المطرب إبراهيم حمودة، إخراج كمال سليم.. وتكررت التجربة مرة أخرى مع إبراهيم حمودة فى فيلم «الصبر طيب» فى نفس العام من إخراج حسين فوزى، ومن إنتاج شركة «أفلام الشباب» التى تشارك فى رأسمالها «تحية كاريوكا».
وتعاود أيضاً التجربة مع «فريد الأطرش» فى فيلم «ما أقدرش» للمخرج أحمد بدرخان، ومع محمد أمين «نجف» و«يحيا الفن»، وأيضاً المطرب محمد فوزى فى فيلم «حب وجنون» إخراج حلمى رفلة وإنتاج محمد فوزى، وكارم محمود «عينى بترف» عام 1950 وقبل ذلك بعام تشارك عبدالعزيز محمود «منديل الحلو»، والفيلمان لنفس المخرج عباس كامل.. كانت هذه الأفلام الغنائية الراقصة تلقى صدى طيباً عند الجمهور.. وبينما نجد أن سامية جمال على سبيل المثال تقدم أغلب أفلامها مع «فريد الأطرش»، تكتشف على المقابل أن تحية كاريوكا تشارك كل مطربى الأربعينيات تقريباً بطولة أفلامهم.
ذروة الإنجاز السينمائى لتحية كاريوكا هو فيلم «شباب امرأة»، 1956 للمخرج صلاح أبوسيف، والذى حصلت من خلال دورها فيه على جائزة الدولة.. إن هذا الدور يبدو وكأنه ينادى على تحية كاريوكا، فلقد ذابت تماماً الحدود الفاصلة بين الدور والشخصية التى تؤديها.. «شفاعات» هو ذروة أدوار بنت البلد، ليس فقط فى تاريخ تحية كاريوكا بل فى تاريخ السينما العربية.. إن هذه الشخصية التى أدتها تحية كاريوكا برغباتها المحمومة كان من الممكن أن تسقط فى الفجاجة والنمطية ولكن «تحية» تقدم هذا الدور بأستاذية، وبعدها نكتشف أن أكثر من فنانة تحاول أداء هذه الشخصية ولكنهن يسقطن وهن يحاولن تقليد تحية كاريوكا، لقد صار دور «شفاعات» هو ترمومتر أداء دور بنت البلد، إلا أن الزمن لا يجود علينا سوى بتحية واحدة!!
وقالت لى «تحية كاريوكا» عندما رشحها «صلاح أبوسيف» لبطولة فيلم «شباب امرأة» إنه قال لها هو وكاتب القصة «أمين يوسف غراب «ليس لدينا أجر، لا توجد ميزانية للممثلين، فقط لدينا فيلم».. قرأت «تحية كاريوكا» القصة وقالت لهما: أنا معكما بدون أجر، واتصلت بشادية التى كانت تلعب أدوار البطولة المطلقة وتنهال عليها الأفلام، وقالت لها «تحية كاريوكا»: الدور صغير ولا يوجد أجر.. ردت «شادية» أنا معكم، وكان حماس «شادية» هو الدافع لإنتاج هذا الفيلم حيث إن الموزع الخارجى للفيلم والذى يساهم اقتصاديا فى تنفيذه، يشترط موافقة «شادية» أولاً، والتى لعبت هذا الدور لمساندة «تحية».. تقول تحية كاريوكا: «شباب امرأة» و«أم العروسة» و«لعبة الست» وغيرها من الأفلام التى نجحت مع الناس كان السبب الرئيسى هو جلسات العمل التى نشارك فيها، لقد كان «عبدالوارث عسر» يلتقى معى أنا و«صلاح أبوسيف» و«السيد بدير» و«أمين يوسف غراب» ونتناقش فى كل التفاصيل، ولهذا يتذكر الناس «شباب امرأة» حتى الآن، وشاركنا بهذا الفيلم فى مهرجان «كان» السينمائى يومها ارتديت الجلباب البلدى مع نجوم العالم الذين حضروا للمهرجان.. ونفت لى «تحية» ما تردد وقتها بأنها رفعت الحذاء فى وجه «ريتا هيوارث» المعروفة باتجاهاتها الصهيونية، قالت لى «تحية»: هذا لم يحدث إنها مجرد شائعات، نعم أنا ضد الكيان الصهيونى، ولكنى لم أرفع حذائى ضد ريتا هيوارث، ولا تنس أننى أمثل بلدى فكيف أفعل ذلك!!
ويتجدد لقاؤها عام 1957 مع «صلاح أبوسيف» فى «الفتوة» ثم يسند لها المخرج «حسن رضا» فيلم «المعلمة» وقبل ذلك بعام تلعب دور «سمارة» فى الفيلم السينمائى الذى أخرجه «حسن الصيفى» وهو عن المسلسل الإذاعى الشهير الذى لعبت بطولته «سميحة أيوب» وجميعها تنويعات لدور بنت البلد!!
تتعايش «تحية كاريوكا» مع الزمن ولا تناصبه العداء ولهذا يتواصل عطاؤها.. إنها تقدم دور امرأة ناضجة تتجاوز مرحلة الشباب فى فيلم «إحنا التلامذة» للمخرج «عاطف سالم» عام 59 وهذا الفيلم مأخوذ عن وقائع حقيقية.. وتواصل مشوارها مع «عاطف سالم» أيضاً فى ذروة سينمائية أخرى لها وهو فيلم «أم العروسة» وتأخذ عن هذا الدور جائزة الدولة للمرة الثانية.. إنها تقدم فى الفيلم دور أم لسميرة أحمد، وعادة السينما عندنا تقدم الأم فى دور هامشى ولكن فى هذا الفيلم الذى أخرجه «عاطف سالم» عام 1963 نجد أمامنا دوراً متكاملاً فى بنائه وأماً قوية الشخصية لها موقف، فهى عنوان الفيلم «أم العروسة»، وقد أعطت «تحية» الكثير لهذا الدور.. منحت «تحية» بأدائها صدقاً وخصوصية لدور الأم لم تشاهده السينما قبلها.. قالت لى «تحية» إن «عماد حمدى» كان متردداً فى قبول دور «أبوالعروسة» بسبب أن «سميرة أحمد» تلعب دور ابنته وكان قبلها بسنوات قلائل يلعب دور حبيبها فى «الخرساء»، ولكنها قالت له «ولكن من الممكن أن تنجب (سميرة)»، وقدم «عماد» فى «أم العروسة» واحدا من أروع أدواره!!
وفى فيلم «الطريق» للمخرج «حسام الدين مصطفى» تؤدى «تحية كاريوكا» دور «بسيمة عمران».. المشاهد قليلة جداً لأن البطولة فى الفيلم لشادية و«سعاد حسنى» و«رشدى أباظة» ولكن المخرج رشح الفنانة الكبيرة التى لم تتردد فى الوقوف مع هذا الفيلم لكى يرى النور، وتظل «تحية كاريوكا» بهذه اللقطات القليلة عالقة بأذهان الناس.. كان «رشدى» قبلها ببضع سنوات زوجاً لتحية ولكنها وافقت ببساطة أن تلعب دور أمه!!
وتأتى السبعينيات زاخرة بالسينما السياسية وتشارك «تحية كاريوكا» فى «زائر الفجر» للمخرج «ممدوح شكرى» و«الكرنك» للمخرج «على بدرخان» – أدوارا قصيرة لكنها لا تتوقف عن العطاء ويأتى دورها المميز مع المخرج «صلاح أبوسيف» فى «السقا مات».. وتصالحت بأستاذية مع الزمن فى عام 73، ووافقت على أن تؤدى دور «نعيمة ألماظية» الراقصة التى فقدت لياقتها ولكنها لا تستسلم، وفى الثمانينيات تقدم «تحية كاريوكا» فقط سبعة أفلام روائية أهمها «للحب قصة أخيرة» للمخرج «رأفت الميهى» و«آه يا بلد آه» للمخرج «حسين كمال»، وفى عام 1990 تلتقى مع «يوسف شاهين» مجدداً فى «إسكندرية كمان وكمان»، وتستمر «تحية كاريوكا» فى العطاء والتواجد برغم أن المناخ السينمائى لم يحسن وقتها الاستفادة من طاقة هذه الفنانة العملاقة لكنها تظل بمثابة الجندى الحارس على صدق إيقاع الحياة السينمائية.. يسند لها «يسرى نصر الله» دوراً هاماً فى أول أفلامه الروائية «مرسيدس» عام 1993 وتتواجد من أجل لقمة العيش فى أفلام مثل «سوق النساء» و«يا تحب يا تقب»!!
المحطة الأولى فى مشوار «تحية كاريوكا» فى هذه المدينة الجميلة الهادئة الإسماعيلية.. تقول «تحية» واسمها الأصلى «بدوية محمد كريم» لكنها لم تكن تحب أن يناديها أحد بهذا الاسم إلى درجة أنها فى حوار مكتوب من خلال استمارة كتبها المخرج الكبير «محمد كريم» سألها عن اسمها الحقيقى فقالت أيضاً «تحية».. قالت لى «تحية»: الإسماعيلية بلدى ولدت بها وعشت فيها حتى 12 عاماً، وقالت لى «تحية» إن الرئيس «أنور السادات» أثناء مرحلة كفاحه كان يختبئ عندهم فى المزرعة وإن الرئيس «السادات» هو الذى ذكرها بتلك الواقعة.. نزحت للقاهرة بعد ذلك بسبب مشكلات مع أخيها الكبير الذى عذبها وحلق شعر رأسها.. قصدت بيت السيدة «سعاد محاسن» وهى صديقة لأخ آخر لها ولكنها لم تجدها فى القاهرة وسافرت الإسكندرية حيث كانت مدام «سعاد محاسن» تغنى هناك وطلبت منها أن تعمل معها فى المسرح كانت تمسك «حربة» وتقف على المسرح ولا تنطق بكلمة واحدة وكان يشارك فى هذه المسرحية الفنان «بشارة واكيم» وقالت لى تحية إنه هو الذى اقترح على مدام «محاسن» أن تمسك بالحربة.. ورضيت وتعايشت فى صباها المبكر مع عملها- ككومبارس- فى المسرح ولكن بعد أربعة أشهر سافرت السيدة «محاسن» إلى سوريا بعد أن زال سوء التفاهم مع زوجها ولكنها قبل أن تسافر «لم تشأ أن تتركنى بدون أن تصنع جذور الود بينى. وبين أهم سيدة عرفتها فى حياتى،«بديعة مصابنى»!!
تعلمت من بديعة مصابنى أن الإنسان يقاوم السقوط برغم أن بديعة كانت قد أنتجت فيلماً وسقط جاءوا للحجز عليها وكادت أن تنتحر لكنها صمدت ووقفت على قدميها بعد أن أنقذتها ووجدت أمامى السيدة «بديعة مصابنى» تقف شامخة مرة أخرى ورفضت أن أقيم بالقاهرة بمفردى وأصرت على أن تأتى أمى لتقيم معى.
«تحية كاريوكا» ظلت تمارس الحياة السياسية حتى سنواتها الأخيرة فلقد تزعمت اعتصام الفنانين وكانت هى الفنانة الوحيدة التى أضربت عن الطعام عام 1988 ولم يوقف إضرابها سوى تدخل الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» الذى اتصل بها فى نقابة السينمائيين مقر اعتصام الفنانين وداعبها قائلاً «عايزة يقولوا يا ست (تحية) إنك عشت تأكلين فى عهد فاروق وعبد الناصر والسادات وبعدين تموتى جوعانة فى عهد مبارك».. وانفض الاعتصام وتقابل الفنانون وعلى رأسهم «تحية» بعدها مع مبارك فى لقاء ودى داعب فيه كثيراً «تحية كاريوكا»!!
عرفت «تحية كاريوكا» منذ أن كنت طالباً بكلية الإعلام وأجريت معها وأنا فى السنة الأولى بالكلية حواراً نشرته على صفحات جريدة «صوت الجامعة» وعلى صفحات روزاليوسف، ومن بعدها صارت بيننا علاقة حميمة.. كنت فى تلك الأثناء أذهب إليها فى بيتها 16 شارع النيل بالجيزة بيت مترامى الأطراف.. به شرفة تتجاوز عشرة أمتار ومر زمن قصير لتسلب منها شقتها بعد أن طلقها «فايز حلاوة» وتزوج من مذيعة التليفزيون فريال صالح، أطلق «مأمون الشناوى» وقتها نكتة وهى أن «فايز» تزوج «تحية» (عظم ورماها لحم) حيث كان وزنها قد ازداد كثيراً.. وكنت أذهب إليها بعد ذلك فى شقة لا تتجاوز بضعة أمتار قليلة أمام سينما التحرير عمارة رقم 49 غرفة نوم وصالة فقط لا غير، ولكن «تحية» لم تتغير ظلت تملأ هذا المكان الصغير حياة وكنت أشعر عندما أقابل «تحية» داخله وكأنه قصر ملكة وليس بيتا لا تتجاوز مساحته فقط 100 متر.. كنت أجد فى الصالة صورة «رشدى أباظة» قالت لى إنه الرجل الوحيد الذى أحبته.. وقبل رحيلها وهى تفتح باب شقتها وجدت طفلة رضيعة فقررت أن تتبناها وأطلقت عليها اسم «هبة الله» أصرت على أن تكتب لها «فيفى عبده» وديعة فى البنك مقدارها 100 ألف جنيه وأوصتها أن تتبناها بعد رحيلها وهو ما نفذته بالفعل «فيفى عبده» وعندما سألت رجاء الجداوى مؤخرا عنها قالت لى إنها لا تزال فى رعاية فيفى!!
لم تنقطع علاقتى بها وفى المستشفى الذى شهد أيامها الأخيرة ذهبت إليها قالت لى دائماً أحلم بـ «نجيب الريحانى»، «سليمان نجيب»، «بشارة واكيم»، «حسين رياض»، «عبدالفتاح القصرى»، «محمد فوزى»، «فريد الأطرش»، «مارى منيب»، «سامية جمال».. وعلمت من الفنانة «رجاء الجداوى» أنها أيضاً فى يقظتها كانت تعيش معهم وتردد أسماءهم وربما تغنى معهم أيضاً «يا خارجة من باب الحمام وكل خد عليه خوخة».. وبعد رحيلها فتحوا الدرج الخاص بها لم يجدوا فيه سوى صورة تجمعها مع «رشدى أباظة» ودبلة زواجها من «فايز حلاوة» أما المفاجأة فهى أن آخر زيارة فى حياتها قبل أن تدخل فى الغيبوبة كانت من فايز حلاوة واستمرت 15 دقيقة وخرج فايز من الغرفة وهو يبكى وبعدها لم تلق تحية سوى وجه رب كريم!!.
قدمت الدراما فى مسلسل قبل بضعة أعوام حياة تحية كاريوكا، لعبت بطولته وفاء عامر، كان من المفروض أن أمثل فى المسلسل دورى معها وأقدم شخصيتى كما عرفتها فى بداية المشوار، وحتى زيارتى الأخيرة لها، ولكنى وجدت أننى لا أعرف كيف أمثل دور طارق الشناوى، لأننى حقيقة أحببت هذه السيدة وقدرت واحترمت مواقفها عبر زمن عاشته فى الحياة الفنية منذ مطلع الثلاثينيات وحتى نهاية التسعينيات من القرن العشرين، لم تكن تحية تمثل دور تحية وأنا لم أكن أمثل دور طارق، ولم أقف أمام الكاميرا لتوثيق حياة تحية كاريوكا ولكنى أقدم لكم هذا المقال الذى يحاول توثيق جزء ولو يسير من «زمن…. تحية كاريوكا»!!