كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسى هكذا كان يقول جوبلز وزير الدعاية في عهد هتلر، هل حينما يسمع المشاهد العربي –اليوم- هذه الكلمة يتحسسس (الريموت كنترول)، هل أصبحت هذه الكلمة ثقيلة على قلب المشاهد، تعني بالنسبة له الجدية والصرامة والنفور، وهو عكس المفهوم التقليدي للتليفزيون الذى تعود عليه المواطن العربي، والذى يرتبط بالتسلية وتمضية الوقت والهروب من مشاكل الحياة اليومية.
المتأمل للفضاء الإعلامي العربي يلاحظ حضورًا مكثفًا للقنوات الإخبارية والترفيهية والرياضية يقابله حضورًا باهتًا أو لنقل غيابا لقنوات ثقافية، مما يعكس تهميشا لدور الثقافة في حياة الإنسان العربي، أغلب البحوث الإعلامية العربية الأخيرة تؤكد أن نسبة المشاهدة للبرامج الثقافية ضئيلة وتأتي في المرتبة الأخيرة أو في أحسن الأحوال قبل الأخيرة في تفضيلات المشاهدة وإذا أوردنا الأرقام سنفاجأ بأنها مخجلة للغاية.
ما المقصود بالبرامج الثقافية:
بداية يجب أن نسلم أن أي رسالة إعلامية هادفة يجب ألا تخلو من مضامين ثقافية، وقد وقع خلط كبير بين الباحثين الإعلاميين والممارسين للعمل الاعلامي والقائمين على أمور التليفزيون في عالمنا العربي في تحديد ماهية البرامج الثقافية؟ التي يشار إليها بأنها البرامج التي تهتم بالشعر والأدب والفن وبطائفة من الناس يطلق عليهم (المثقفون) وكأن الثقافة حكر على المبدعين والأدباء وأساتذة الجامعة!! مما أدى إلى تجاهل هذه البرامج بوصفها تقدم لفئة من المتخصصين ولاتقدم للجمهور العام، وقد استتبع ذلك تقليل المساحة المخصصة لها في خريطة البرامج، وإذاعتها في أوقات ميتة، لا تتمتع بأي نسبة مشاهدة في نهاية الإرسال اليومي (برنامج أوتار الليل وهو برنامج يهتم بالشعراء يقدم على القناة الرئيسية للتليفزيون المصري الساعة الرابعة فجرا والناس يغطون في نوم عميق!!)
وإذا توقفنا عند تعريف تايلور الشهير لمصطلح الثقافة سنجده يعرفها على النحو التالي: (ذلك الكل المركب الذي يشمل المعتقدات والمعارف والفن والقانون والأخلاق والعرف وغيرها من القدرات والعادات التي يكتسبها الإنسان بصفته عضوا في مجتمع ما)، فالثقافة هي الحياة التي نعيشها وأنشطتنا فيها، إذن فكل ما يقدم من برامج ثقافة، فالثقافة إذا كانت تعني التفكير المنظم بمختلف الأشياء والقضايا، فالإعلام بوسائله وآلياته المعروفة يشكل القناة التي يمر فيها كل ما سبق والوسيلة التي تنقل ما يبث فيها، فالإعلام كما هو معروف يقوم بعدة وظائف رئيسية كالإخبار والتعليم والترفيه والإعلان، لكن تبقى وظيفته الأبرز والأهم هي (التثقيف) هذا –طبعا- لو كان ملتزما بقضايا المجتمع وواعيا لأولوياته.
ويتوجب علينا أن نعيد النظر في مفهوم البرامج الثقافية انطلاقا مما سبق، فالبرنامج السياسي أو برنامج المنوعات أو حتى برامج الطبخ هي برامج تقدم بعدا ثقافيا ما، وعلى الأكاديميين أن يضعوا فوارق واضحة ودقيقة بين البرامج الأدبية والبرامج الفنية وغيرها، دون اطلاق هذا المصطلح العام البرامج الثقافية.
البرنامج الثقافي ….. أول محطة اذاعية ثقافية متخصصة:
في الخمسينات من القرن الماضي تأسس في مصر البرنامج الثقافي واشتهر باسم (البرنامج الثاني ) كأول محطة اذاعية متخصصة في الثقافة في عالمنا العربي ، وقام بتأسيسها الرائد الإعلامي سعد لبيب بعد عودته من لندن واطلاعه على تجربة الbbc في اطلاق إذاعة ثقافية ، وقد حازت هذه المحطة على شهرة واسعة ، فكانت منبرا لكبار المثقفين العرب وقدمت العديد من النقاشات حول الإبداع الجديد في العالم العربي ومن الأسماء الشهيرة التي استضافتها تلك المحطة (محمد مندور ، صلاح عبد الصبور ، حسين فوزي ، الفيتوري ) وغيرهم كثيرون ، فكان جواز المرور لأي مبدع للدخول في الحياة الثقافية مناقشة عمله في تلك الاذاعة – وفي هذه الفترة كانت تشهد القاهرة والعديد من العواصم العربية حالة من الإزدهار الثقافي والإبداعي ، وهنا يلزم علينا أن نؤكد أن ازدهار الإعلام الثقافي يجب أن يسبقه مناخ ثقافي مزدهر وهذا الشرط كان متوفرا في ذلك الوقت فالإنسان العربي كان أكثر ارتباطا بالكتاب وأكثر تفاعلا مع الحياة الثقافية قبل أن يظهر الغول الجديد المسمى ( التليفزيون ) فيلتهم الفضاء الاعلامي العربي التهاما ويوجه ذائقة الجمهور تجاه التسلية والتسطيح – في كثير من الأحيان – بل هذا الغول أصبح أكثر شراسة في عصر الفضائيات اليوم!
ولا مجال للمقارنة بين ما نعيش فيه من ثورة اتصالية وعصر الستينات فنحن نعيش عصر الوفرة الاعلامية ، وتعددية المنابر، وظهور ما يعرف بالاعلام الجديد New Media من خلال شبكة الانترنت والعالم الافتراضي الذي هو أيضا يعاني ندرة المواقع الثقافية مقارنة بمواقع الأخبار والترفيه ، ففى عصر التخصص وتجزيء الجمهور أصبح المتلقي هو البطل هو صانع إعلامه الذي يلبى احتياجاته كما يشاء وفي هذا الإطار نواجه مجموعة من الأسئلة هل هذه الوفرة استفاد منها الواقع الثقافي ؟ هل نحن في حاجة لقنوات متخصصة للثقافة – قد تعزل المثقفين عن الجمهور العام- أم نحن في حاجة لتعظيم المادة الثقافية في القنوات الفضائية العامة ؟
كيف يمكن أن نقدم المادة الثقافية في قالب فني شيق يجذب اليه الجمهور ؟ كيف تتعامل المواقع الإلكترونية مع المضامين الثقافية الجادة؟
من المعروف أن الإعلام اليوم صناعة ومعظم القنوات الفضائية تقع تحت سطوة وكالات إعلانية ضخمة يهمها في المقام الأول حساب المكسب والخسارة فهل لدينا رأس المال العربي الشجاع لدعم القنوات الثقافية التي يمكن أن تكون مشاريع نهضوية تعمل على تنوير العقل العربي؟
هناك نقاط ضوء- بعض البرامج- في المشهد الإعلامي العربي متميزة إلى حد كبير وعلى الرغم من قلتها إلا أنها تتسم بالعمق في طرح الرؤية وتعكس ثقافة واسعة لمقدميها نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر برنامج روافد لعلي الزين – قناة العربية- برنامج اضاءات لتركي الدخيل ، الكتاب خير جليس لخالد حروب –قناة الجزيرة –متوقف منذ فترة- هذا بالإضافة إلى بعض البرامج بقناة النيل الثقافية، وهى قناة مصرية حكومية انطلقت عام 1997 ضمن مشروع قنوات النيل المتخصصة التي تضم الدراما والمنوعات والرياضية والأسرة والطفل والأخبار والقنوات التعليمية وقد اتهمت القناة في بداياتها بأنها موجهة للنخبة وأنها بعيدة عن رجل الشارع ، وهي تواجه تحديا كبيرا في أن توازن ما بين البرامج المتخصصة والبرامج الموجهة للجمهور العام دون تسطيح من جهة ودون تعقيد من جهة أخرى ، وأتصور أن اشكالية تحقيق هذا التوازن تواجه كل من يخطط لإنشاء قناة ثقافية متخصصة ، هل الهدف أن تكون القناة جماهيرية أم نخبوية ؟ ثقافية أم تثقيفية ؟
وإذا قمنا بتحليل بعض البرامج الثقافية – مجاراة للتسمية المعروفة بالرغم من تحفظاتنا على المصطلح –سوف نواجه بمجموعة من السلبيات يمكن إجمال بعضها فيما يلي:
– فقر الصورة: وهي المشكلة الأساسية التي تواجه القائمين على هذه البرامج فلغة التليفزيون لغة صورة في المقام الأول وصورة متحركة وليست ثابتة (فبرامج عرض الكتب مثلا تكتفى بتقديم صورة ثابتة لغلاف الكتاب وكأنهاالصورة الوحيدة وتدور الحلقة في إطار نقاش كلامي فقط وإذا تعرضنا لبرامج عرض الكتب على القناة الفرنسية الخامسةTV5 – القناة الثقافية الفرنسية نجد أن الكاميرا تخرج من الإستديو مع الكاتب مؤلف الكتاب وتنقل الأماكن التي كتب عنها مما يضفي جاذبية على البرنامج تشد اليها المشاهد
– تقعر لغة المثقفين وهي سلبية في غاية الخطورة فلكل مقام مقال كما قالوا قديما فخطاب المثقف عبر التليفزيون يجب أن يختلف عن خطابه في ندوة ثقافية ومن ناحية أخرى على مثقفينا أن يعوا أن البساطة في التعبير عن الأفكار لا ينفي عمقها
– اقتصار المضمون الثقافي على المضمون الأدبي والإبداعي وإهمال الثقافة العلمية والثقافة بمفهومها الشامل – كما أوضحنا سابقا- فمناقشة قضايا مثل رغيف الخبز أو سلوكيات رجل الشارع لا تقل أهمية عن مناقشة قضايا العولمة والحداثة
– ضعف الموارد المالية والإمكانات الفنية التي تتوفر للبرامج الثقافية
– عدم التأهيل للكوادر الإعلامية التي تعمل في الحقل الثقافي فالإعلامي الذي يعمل في هذا الحقل يحتاج لمواصفات خاصة وتدريب مستمر …. وكما كان يصرخ يوسف إدريس في مقالاته بالأهرام …. أهمية أن نتثقف يا ناس ، لنرفع أصواتنا وندعو أن يتثقف إعلامنا .
اقرأ أيضًا:
محمد عبده بدوي:رصاصة كريس كايل “الأخيرة”
محمد عبده بدوي: كيف تقرأ الأخبار دون أن تنفجر جمجمتك!