لن يتخيل الأديب الدكتور علاء الأسواني، والصديق العزيز الكاتب الصحفي وائل لطفي، إلى أي مدى أثرا في مسيرة السيد “أبو شامة” وشكلا (دون قصد منهما) محطات هامة في مراحل حياته الممتلئة بالحوادث والحكايات، الغارقة بالأسرار الكونية والألغاز المسلية، والتي تستحق أن تحكي في يوما ما.
عندما وجهت سؤال نيكوس كازانتزاكيس، ساخرا إلي “أبو شامة”: “ولماذا لا تكتب حضرتك – يا زوربا – كي تفسّـر لنا جميع أسرار الكون ؟”.
جاءني رده على طريقة “زوربا اليوناني” وبلسانه: “لأنني أعيش بالفعل كافة أسرار الكون الذي تتحدث عنها أيها الأحمق وليس عندي الوقت لأكتبها .. ليس عندي وقت لأمسك هذه الأداة الفارغة التي تسمّونها “القلم”، فمن يعايشـون الأسرار ليس لديهم وقت لكتابتها .. ومن لديهم وقت للكتابة لا يعايشون الأسرار.. .. لهذا السبب انتشر الهراء في العالم”.
ولأني تجاوزت عن الرد كي لا أفسد الود، وذكرته متعمدا بالعبارة الشهيرة: هذا جزاء من يعصى المعلم «أبوشامة»، فضحك وتمنع وجلس يتصنع.. وهو يتذكر قصته.
كان ذلك قبل 6 سنوات عندما أصبحت سيرة أبو شامة.. علكة (لبانة) يلوكها كل من هب ودب، بعد أن نشر علاء الأسواني في صحيفة المصري اليوم في يوليو 2011 مقالا بعنوان «أبوشامة»، مقررا في مقاله أن يغتال هذه الاسم معنوياً أمام جمهوره العريض من القراء، أختار كاتب “يعقوبيان” وصاحب “نادي السيارات”، دون قصد أسما هو بالمصادفة أسم الشهرة لصحافي وأدباتي ودراماتورج مصري (غلبان)، ليكون لسوء حظه معادلا لشخصية الطاغية المغتصب، وكان (الأسواني) وقتها يشير رمزا إلي شخصية الرئيس المخلوع حسني مبارك الذي سقط حكمه قبلها بشهور وكان يستعد بعدها بأيام لمحاكمة القرن في أغسطس 2011.
يقول الأسواني في مقاله: «سرعان ما انتشرت الحكاية: ملثمون مسلحون هاجموا حسن يريدون زوجته ولما دافع عنها قتلوه ثم اغتصبها زعيمهم «أبوشامة».. في اليوم التالي تكرر الأمر بتفاصيله مع فرج الحلاق. دخلوا عليه وحبسوا أطفاله الثلاثة بعد أن قيدوهم وكمموا أفواههم ثم هجم أبوشامة على زوجة فرج الذي ما إن دافع عنها حتى قتلوه وألقوا به فى الشارع وعلى صدره ورقة مكتوب عليها نفس الجملة: هذا جزاء من يعصى المعلم «أبوشامة».. تكررت الحادثة بنفس التفاصيل مرة وراء أخرى.. الزوج يقاوم فيقتل والزوجة تغتصب. ظل «أبوشامة» يقتل الأزواج ويغتصب الزوجات».
ونكمل الصورة بمقتطفات من مقال الأسواني الملعون لن تكون كافية ليتحقق الغرض وتستشعر الرعب من مجرد ذكر أسم “أبوشامة”.. لهذا أنصح بقراءته كاملا على موقع الصحيفة:
* «ما حدث بعد ذلك مخجل حقا. فقد استمر اغتصاب الزوجات لكن أحدا من الأزواج لم يقتل. كف كل زوج عن الدفاع عن زوجته أو ربما كان يبدى دفاعا شكليا حفظا لماء الوجه ثم يتركها بعد ذلك لـ«أبوشامة» يفعل بها ما يشاء».
* «الشيخ عبد الباسط إمام الجامع (الذي اغتصبت زوجته أكثر من مرة) قال في خطبة الجمعة: إن الرجل الذي يغتصب أبوشامة زوجته في حكم المضطر لأن مقاومة «أبوشامة» تعنى الهلاك المحقق».
* «مر عامان ونصف العام، ثلاثون شهرا والشارع يعيش في هذا الكابوس». «تغيرت أخلاق الناس في الشارع وتحول معظمهم إلى شخصيات أنانية منافقة كارهة تتوجس من الآخرين وتكره لهم الخير وتفرح لمصائبهم كما ساد التطرف بينهم في الاتجاهين».
* «ظل حمدي اللبان يستغيث بالناس ويولول كالنساء وما إن رأى كريم وأصحابه حتى صاح فيهم: الله يخرب بيوتكم. ضيعتم الشارع.. إننا نتعرض للسرقة كل يوم عيانا جهارا.. ولا يوم من أيامك يا أبوشامة».
قضي الأسواني بقصته على الميراث الطيب الذي حملته في وجداني سنوات طويلة تتجاوز الربع قرن لأسم “أبوشامة”، الذي ناداني به للمرة الأولى وائل لطفي زميلي في المدرسة التوفيقية الثانوية بشبرا عام 1990، وقتها هممت أن أتشاجر معه لأنه نطقها بطريقة السب، لكنه أقنعني بأنها ليست شتيمة (بيشتغلني طبعا)، وقال بكبرياء وغرور المثقف: “أنت تطول.. (أبو شامة) ده المؤرخ بتاع صلاح الدين الأيوبي.. ده زي هيكل كده بالنسبة لعبد الناصر”.
سحرتني كلمات صديقي (أبن شبرا) ودغدغت أحلامي خاصة مع سحر اسمي هيكل وناصر بالنسبة لي وله، فجهادت بين الكتب والمكتبات لأقرأ عن الإمام “أبو شامة” صاحب “الروضتين في أخبار الدولتين” وهو كتابه الأشهر عن عصري صلاح الدين الأيوبي ونور الدين زنكي.. وعرفت أنه عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم محمَّد المقدسي الدمشقي، وأنه محدِّث وفقيه ومؤرخ، اشتهر باسم أبي شامة لوجود شامة على خده الأيسر، وأصله من القدس.. لكنه ولد في دمشق وعاش ومات فيها.
كانت سيرة الرجل المعتبرة إيذانا بميلاد مشروع “أبو شامة”، الذي تبنيته ونميته وراعيته.. ثقافة وأدبا وفنا، قبل أن يدهسه قطار الربيع العربي الذي كان يقوده علاء الأسواني مع آخرون.. ويغتالوا صورته النقية بفعل المقال المعنون باسم “أبوشامة”.
لم تفلح السنوات أن تمحي آثار المقال، فنظرات الخوف والرعب كانت تطارد “أبو شامة” في عيون من تمنوا أن يكونوا ضحاياه، لم ينقذه ويدعم مقاومته من الانجذاب لرغبات مرضى “الماسوشية” من مجتمعه المحيط، إلا الصورة المصرية لـ “أبو شامة” والمحفورة في وجدانه، والتي خلق وجودها عميد الدراما التليفزيونية الخالد أسامة أنور عكاشة في روايته العظيمة “زيزنيا”، وشخص هذا الدور دراميا الدكتور سيد عبد الكريم (رحمه الله) في جزئي المسلسل الذين عرضا عامي 1997 و 2001.
قدم عكاشة في شخصية المعلم عزوز أبو شامة نموذج لأبن البلد السكندري في الأربعينات من القرن العشرين، بكل سماته وملامحه المميزة التي أجاد رسمها وجمع فيها كل تناقضات الإنسان المصري، ورصد من خلال رحلته من “زنانيري” إلى “يافا” محنة المواطن العربي المصاب بداء “الوطنية”، وكشف من خلال زوجتيه المصرية والفلسطينية تحطم مشروعه الشخصي فداء لهمه الوطني، مكتفيا برأي مؤلفه فيه على لسان أحد شخوص المسلسل بأنه “من أجدع ناس في بر إسكندرية”.
لا داعي لأن تطرح سؤالا عن سر توقيت الحكاية، فلقد قرر “أبو شامة” مع نفسه أن يحتفل بنفسه في اليوم العالمي للسعادة (ويحتفل أيضا معها بالذكرى السنوية لميلاده في 31 مارس) ..
لقد أسعدني “أبو شامة” بوجوده في حياتي.. وأسعد كثيرين لوجه الله، وكان هذا عهده .. فصدق الله وعده .. وأسعد قلبه.. ومهما أنكسر.. قام وأنتصر.
وأخيرا:
شكرا لكل من أحب “أبو شامة” لله..
وصدق حكايته وأمن بموهبته ورسالته.
شكرا لكل كريم أشعل شمعة تنير طريقه.
وشكرا لكل لئيم كان عثرة لوقف مسيرته.
ويبقى الشكر.. ما بقي العمر.