طارق الشناوي يكتب: أحمد زكي .. الترمومتر الذي يهربون منه إليه!

نقلا عن المصري اليوم

كان وسيظل هو «الترمومتر» الذي فرض نفسه على الحياة الفنية كمقياس لفن الأداء، مهما قالوا من حكايات عن أدائه وتقمصه وجنونه أمام الكاميرا، سيبقى ما تشهد به الشاشة هو الأصدق والأعمق، طبعا أتحدث عن نجمنا الأسمر أحمد زكي.

في مرحلة التسعينيات كان يلوح في الأفق تلك الثنائية التي تفرض نفسها على كل الأزمنة، حيث تجد أمامك قطبين يبزغان في مرحلة زمنية واحدة، وتبدأ الصراعات بينهما، بالتأكيد هناك فارق زمني بين عادل إمام وأحمد زكي نحو عشر سنوات، عادل سبق أحمد للدنيا وللفن بتلك السنوات العشر، عادل احتل مكانة النجم الجماهيري في نهاية السبعينيات، بينما أحمد عرفها في مطلع الثمانينيات، ربما بفارق لا يتجاوز أربع سنوات، ولهذا كان الصراع بينهما حتميا، رغم أن كلا منهما كان يعيش في عالم فني مختلف، دائرتان منفصلتان والمشترك بينهما يضيق، ورغم ذلك كان هناك صراع، كنت أرى أن كلا منهما وصل للبؤرة في دائرته، عادل بمقياس الأرقام هو الأول، وأحمد بمقياس الإبداع هو الألفة، إلا أن ما أجج عمق المعركة أن كلا منهما تمنى أن يحقق ما لدى الآخر، عادل أراد أن يجمع بين الأرقام والإبداع، وأحمد يحلم بالأرقام مع الإبداع، ولم يبح أي منهما أبدا بتلك الرغبة مباشرة، ظلت رغبة مكبوتة، ولكن في النهاية لا أحد يمسك بقبضته كل الدُنيا.

أكثر نجمين أثّرا في الأجيال التالية لهما هما عادل وأحمد، النجاح بطبعه معدٍ، كل منهما أيقونة في دائرته، النجاح هو هدف أي نجم جديد يتمثل لا شعوريا تلك التجربة، وأسهل طريق لتحقيق هذا الهدف، كما يعتقد البعض، أن تدرس من سبقك وتمشي على خطاه في كل التفاصيل، وتعتبر أنك كلما كنت دقيقا في الاستنساخ كلما نجحت في الاقتراب من النجاح، رغم أنه بالضبط الطريق السريع للوصول إلى ذروة الفشل.

عندما قفز عبدالحليم حافظ إلى أعلى سلم النجاح الفني والجماهيري في عام 1954 بأغنية «على قد الشوق اللى في عيوني يا جميل سلم»، فوجئت لجان الاستماع في الإذاعة المصرية بأن أكثر من 100 مطرب يطرقون بابها، وكل منهم يقلد عبدالحليم ويحاول أن يغني على الطريقة «الحليمية»، ولم يتحقق أي منهم.

النجاح الطاغي يحيل الفنان في أي مجال إلى أن يصبح هو الفن وليس نموذجا له، وهكذا صار عبدالحليم هو الغناء وليس نموذجا للغناء، حدث هذا أيضا مع أم كلثوم وعبدالوهاب وفيروز، وهو ما تكرر مع فاتن حمامة وسعاد حسني وعادل إمام وأحمد زكي في مجال التمثيل، حيث يعتقد الفنان الجديد أن ما يسمعه أو يراه هو فقط الفن وليس فقط نوعا من الفن.

كثيرا ما كنت ألتقي في نقابة الصحفيين أو في مبنى الإذاعة والتليفزيون بفنان جديد أسمر اللون يستوقفني قائلا لى إنه موهوب في التمثيل ويبدأ في تقليد أحمد زكي، وهو يرقب نظرات عينيّ هل أنا مبهور به وهو يقلد نجمنا الأسمر، وهل وصل بالفعل إلى التلاقي مع أحمد زكي، كنت أكتفي بابتسامة، وأنطلق بعيدا حتى لا ندخل في جدال عقيم، من البديهي أن يبدأ الفنان مقلدا حتى يعثر على ملامحه وبصمته، كان رياض السنباطي في بداية مشواره مقلدا لمحمد القصبجي أستاذه الذي علّمه العزف على العود، لكنه تحرر بسرعة لتصبح له شخصيته وبصمته، وكان سيد مكاوي يحاكي أستاذه الشيخ زكريا أحمد حتى عثر على نغمته الخاصة، وكان فريد شوقي يريد أن يصبح أنور وجدي، وكان أنور وجدي لا يرى في الدنيا سوى يوسف وهبي، والذي حدث مع الزمن أن كلا منهما اكتشف نفسه، أنور أصبح أنور، وفريد فريد!!

في حياته وبعد رحيله أتحدث عن أحمد زكي، وجدت أكثر من فنان يترسم ملامحه مثل عمرو سعد ومحمود عبدالمغني ومحمد رمضان، كان رمضان قد عرفه الناس من خلال أدائه لدور أحمد زكي في مسلسل «السندريلا»، فكان التوافق حتميا، ولكنه في الحقيقة كان أكثر ذكاء في العبور من هذا القيد مسرعا ليصبح محمد رمضان.

ويبقى الأهم وهو المنهج الذي تركه أحمد إنه المعايشة الكاملة مع الشخصية، هيثم أحمد زكي ورث جينات أحمد زكي، ولكنه منذ الوهلة الأولى والطلة الأولى عرف أنه ليس امتدادا للأب، وأن الدور الذي لعبه في بداية المشوار في فيلم «حليم» كان حتميا أن يصبح مزيجا من حليم وأحمد، فهو يُكمل شخصية عبدالحليم بعيون أحمد، ولكنه بعد ذلك ربما بدون توجيه من أحد صار نفسه، بالطبع هيثم ليس فنانا استثنائيا مثل أبيه، ولا يملك نفس القدرة على الجذب، على الجانب الآخر لا أستطيع أن أنكر أنه ممثل موهوب، ربما لا يملك دائرة اجتماعية في الحياة الفنية نظرا لتركيبته الشخصية التي تميل للتقوقع، وهذا ما يجعله قليل الحضور على الشاشات.

سألوني أكثر من مرة عن عمرو سعد ومأزق أحمد زكي، قلت لهم: عمرو ممثل موهوب تأثر في البداية بأحمد ثم صار لديه نغمة أداء خاصة، يريد أن يصبح نجما جماهيريا، أي صاحب قدرة على الجذب، وهو شرط لم، وبعد مرور كل هذه السنوات، أستطع أن أقول لن يتوفر فيه، نعم لديه جمهور ولكنها دائرة لها شروط لا تصنع منه نجما شعبيا، وإيرادات فيلميه «حديد» و«ريجاتا» أكدت ذلك، ويبقى أن قوته تكمن لو هناك فيلم وقضية ودور من الممكن كما حدث في آخر أفلامه «مولانا» ومهما كان لديّ من ملاحظات فنية عن الفيلم، سبق أن أشرت إليها، إلا أنه استطاع أن يحقق إيرادات معقولة، لا تضعه قطعا في قائمة نجوم الشباك الكبار ولكن تضمن له ولا شك الوقوف في صف هؤلاء، مع ضرورة توفر العمل الفني، الذي يستند إلى موقف ورأي ورؤية. أما عبدالمغني فهو ممثل موهوب ولكن بلا كاريزما النجم، أراه تليفزيونيا بدأ يُدرك ذلك، فارتضى بالدور الثاني وتسبقه بطلة تتحمل المسؤولية، له محاولات في السينما مثل «النبطشي» و«كرم الكنج»، والأرقام تخذله تماما ولا تشجع على الاستمرار، ولا أدري ربما يجد منتجا يراهن عليه مجددا أم لا، إلا أنني أراه يبدد موهبته في محاربة طواحين الهواء، فهو ممثل موهوب منذ أن رأيته مع علاء ولي الدين في «عبود على الحدود»، اخراج شريف عرفة، وكان معه أحمد حلمي وكريم عبدالعزيز في بداية مشوارهما، وصارا نجما شباك بعدها بسنوات قلائل، ولكن لم يتحقق الأمر ذاته مع عبدالمغني، لأن لله في خلقه شؤونا، وذكاء الفنان أن يدرك بالضبط أين تكمن مواهبه وأسلحته.

أحمد زكي جمع بين الحسنيين، الممثل العبقري والنجم الجماهيرى، إلا أن الممثل هو الوجه الأكثر حضورا وبقاء، نعم بين الحين والآخر كان يريد أيضا الرقم، وكان يسعى إليه في أفلام مثل «مستر كاراتيه» و«استاكوزا» و«أبوالدهب»، يقيني أن الذي سيعيش أكثر هو أحمد زكي الممثل «البريء» و«أرض الخوف» و«كابوريا» و«معالي الوزير» و«زوجة رجل مهم» و«أحلام هند وكاميليا» وغيرها، والأهم أنه كان وسيظل «ترمومتر» التمثيل العربي، ولن يتوقف سحر أحد زكي، سيظل كُثر من الفنانين الجدد من فرط إشعاعه يتمثلون أحمد زكي فيهربون منه إليه!!.