محمد مصطفى أبو شامة
أظن (وبعد الظن إثم) أن اعتلاء السيد دونالد ترامب لمقعده الحالي (رقم 45) في رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، هو علامة فارقة في تاريخ «الديمقراطية» التي كانت قبله، شكل الحكم الأكثر تطبيقًا ورسوخًا واستقرارًا بين شعوب الأرض خلال القرن الأخير. فلم يكن يوجد عام 1900 نظام ديمقراطي ليبرالي واحد يضمن حق التصويت وِفق المعايير الدولية، ولكن في عام 2000 أصبحت 120 دولة من دول العالم (أو ما يوازي 60 في المائة من مجموعها) تُعدُّ ديمقراطيات ليبرالية، استنادًا إلى تقارير مؤسسة «بيت الحرية»(Freedom House)، وهي مؤسَّسَة أمريكية يزيد عمرها عن 64 عامًا.
وترامب ليس المفاجأة السيئة الوحيدة التي قدمتها لنا الديمقراطية، عبر تاريخ حلمها التقليدي (حكم الشعب لنفسه)، فقد قَدَّمَت لنا نماذج وكوارث دَمَّرَت دولًا وشعوبًا وفجَّرَت خلافاتٍ وصراعاتٍ، وأشعلت حروبًا عالمية، عبر ممارسة هذه «الديمقراطية» إغريقيةِ المنشأ وأميركيةِ الهوى والمعايير في عصرنا الحديث.
وسيظلّ شبح هتلر ملقِيًا بظلاله المرعبة على شعوب العالم أجمع، وربما لا تزال سيرته تؤلم الأوربيين واليهود، فقد كان مثالًا «نموذجيًّا» لما يُمْكِن أن يختارَهُ الشعبُ في لحظة «فَقْدِ اتزان»، ليفاجئَ العالم بديكتاتور مجنون يصل إلى قمة الحكم في إحدى دول العالم المؤثِّرة.. ويصحو سكان الأرض معه كل يوم على مفاجأة جديدة غير سعيدة يفجِّرها هذا النمط من الحكام المثيرين.
وفي عصرنا الحالي أظنّ أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سيكون المثالَ الأبرز على حماقة الديمقراطية، فهو يجتهد ليكتب بتجربته السياسية شهادة وفاة أخيرة لها، تؤكد أنها أصبحت شكلًا فاشلًا للحكم في هذا الزمان. وفي مصر لسنا بعيدين عن هذه المعضلة.. (مشكلة الحكم)، فلقد سَقَطَت ورقة التوت الأخيرة عن عورات النظام السياسي المصري «الفاشل» فور خروج مبارك من الحكم، ثم كشفت الاستحقاقات الديمقراطية التالية لـ(يناير 2011)، عن مشهد عجيب.. يحتاج إلى تأمُّل وتحليل ودراسة. فلقد اختارت الأكثرية من المصريين (كتلة ثابتة شاركت في هذه الاستحقاقات)، اختياراتٍ ناقَضَت بعضها (خلال الفترة من يناير 2011 إلى ديسمبر 2015). وقد فسَّرَ البعض «قصة المصريين مع الديمقراطية» بأنها عبقرية تؤكد أن بوصلتَهم تتحرك دائمًا نحو اختيار مشروع الاستقرار الذي رَسَّخ لوجوده نهر النيل منذ أن أشرق فجر الضمير على أرض طيبة وسطعت معه حضارة مصر القديمة، لكن على النقيض، يرى آخرون أن القصة تعكس تشوُّه الشخصية المصرية وعدم قدرتها على الاختيار، وهم في ذلك اتفقوا مع رأي اللواء عمر سليمان (نائب مبارك) الذي كان يرى أن الشعب المصري غير مؤهل للديمقراطية، وهذا ماذكره في حوار تليفزيوني لمحطة «ABC» الأميركية في فبراير 2011: «نعم، الجميع يؤمن بالديمقراطية، لكن متى نقوم بذلك؟ عندما يكون لدى الناس هنا ثقافة الديمقراطية».
ولا يصحّ أن ننسى صاحب العنوان، المفكر والأديب الراحل توفيق الحكيم، الذي ألَّفَ مسرحيةَ «براكسا» أو «مشكلة الحكم» عام 1939، مستوحيًا فكرتها من مسرحية إغريقية مُثِّلت عام 392 قبل الميلاد عُرِفَت بـ«برلمان النساء» للكاتب المسرحي اليوناني أريستوفانيس. وفي بداية المسرحية تقود سيدة تدعى «براكسا» انقلابًا نسائيًّا على حُكمِ الرجال، مستغلَّةً الديمقراطية الأثينية (الأصلية) للقفز على الحكم، ومع هذا الوصول تتفجر الأزمة وتولد المشكلة.. التي لم تُحَلّ حتى اليوم.. وللحديث بقية.