سليمان جودة – نقلا عن المصري اليوم
كان محمد على باشا أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وقد بقى على أميته إلى أن تجاوز الخامسة والأربعين، وبعدها بدأ يتعلم كيف يقرأ، وكيف يكتب!.
ولكن أميته لم تمنعه من أن يكتب تاريخه، فجاء بمساعد له، وراح يملى عليه، وكان يقول دائماً إنه لاحظ أن الذين كتبوا عن إدارته لمصر فى وجوده قد وقعوا فى أخطاء كثيرة، وأضافوا أشياء عنه لم تحدث، وكان يتساءل: إذا كان هذا يحدث فى حياتى، فما الذى يمكن أن يكتبوه عنى من بعدى؟!.
وكان هذا هو السبب الأساسى فى مبادرته إلى كتابة تاريخه بيده، أو بالأدق بنفسه، وكان يقول: إن ما أمليه على مساعدى لا يغير منه شيئاً، ويلتزم بما يسمعه منى تماماً، ولا يبدل فيه حرفاً!.
وهو يذكرنا بنزار قبانى، الذى لما كتب سيرة حياته قال – ما معناه – إنه يريد أن يكتب مسيرته بيديه، قبل أن يأتى آخرون يكتبونها عنه، فيؤلفون فيها ما لم يقع، ولم يكن له وجود!.
وعلى مدى الفترة من ثورة يوليو 1952 إلى اليوم، لم يكتب أحد من حكام البلد عن تجربته فى الحكم، فلا يقع القادم من بعده فى الأخطاء نفسها.. لم يحدث.. باستثناء وحيد هو الرئيس محمد نجيب، الذى كتب: كنت رئيساً لمصر!.
وكأن الرجل – يرحمه الله – قد أحس بأنه من الممكن أن يأتى وقت يجادل فيه الناس، ليس فقط فيما جرى خلال عامين كان فيهما رئيساً لبلاده، ولكن يجادلون فى كونه كان رئيساً أصلاً!.. أحس هو بذلك، فكتب وحفظ تجربته فى كتاب يعيش، ولاتزال طبعاته الجديدة تصدر إلى هذه الساعة!.
أما عبدالناصر فلم يكتب.. ولا يمكن اعتبار كتابه «فلسفة الثورة» كتاباً عن 16 عاماً حكم خلالها.. لا يمكن.. لأن «فلسفة الثورة» مجرد أفكار هائمة عن الحكم، وليس عما جرى فيه!.
ولم يكتب السادات.. وقد يكون كتابه «البحث عن الذات» بداية أرادها، لولا أن القدر لم يمهله ليكتب السيرة كلها بين غلافين!.
ولم يكتب المشير طنطاوى، رغم أنه حكم فعلياً وقت أن كان على رأس المجلس العسكرى.. ولا كتب المستشار عدلى منصور، رغم أنه حكم لعام كامل، ولا أعرف سبباً يمنع المشير، أو يمنع منصور.. ومن أين سوف يعرف المصريون دقائق الأحداث بعد 20 يناير، إذا لم يعرفوها من الذين صنعوها، أو الذين شاركوا فى صنعها؟!.
ولست أجد شيئاً يمكن أن ينشغل به حسنى مبارك، فى بيته هذه الأيام، إلا أن يجلس ليكتب، قبل أن يأتى غيره فيكتب نيابة عنه، ويضيف، ويحذف لغرض، ويؤلف له حياة من الخيال!.
إن مبارك هو أطولهم حكماً، بعد محمد على، وهو الوحيد الذى انتهت سنوات حكمه الثلاثون، بما انتهت به، ولابد لذلك، أن يكتب.. فعنده ما ليس عند سواه عن ثلاثة عقود كاملة من تاريخ البلد، وقبلها خمس سنوات إلى جوار السادات!.. إن عنده ما يجب أن يكتبه!.