هل تحكم الشعوب نفسَها حقًّا في أعرق الديمقراطيات الغربية وأشدها تمسكًا بالمبادئ والقيم الليبرالية؟ أم أن الديمقراطية أصبحت عندهم (وعندنا بالطبع) مسرحيةً هزليةً لا تختلف في شيء عن كوميديا «برلمان النساء» لـ«أرستوفانيس» التي أعادها توفيق الحكيم للحياة قبل أقل من قرن من الزمان تحت عنوان «براكسا أو مشكلة الحكم»؟
قبل أن نعود لهزلية الحكيم التي أوصلت «بلبروس» زوج «براكسا» الطيب الساذج إلى كرسي الحكم، سنكمل الأسئلة الصعبة، ونستعيد معها لحظات أصعب واغرب منها، مثل انتخاب المصريين لمحمد مرسي (الأستبن الإخواني) رئيسًا، أو اختيار الإنجليز للخروج من الاتحاد الأوربي المعروف بـ«البريكست»، أو الفوز المباغت لدونالد ترامب بمقعد الرئاسة الأميركية، وقبلهم لعبة الكراسي الموسيقية في روسيا بين بوتين وميدفيديف الرئيس ورئيس وزرائه تحت غطاء ديمقراطي «هزلي»، ونسأل: هل كانت اختيارات الشعوب حقيقية ومنطقية وعقلانية وصحيحة؟.
وهل الديمقراطية هي ما سيقوم به الـ«أردوغان» بعد أيام وهو يمتطي السلطة عبر الاستفتاء التركي على تعديل 18 مادة من دستور بلاده ليقلب نظام الحكم فيها من جمهورية برلمانية إلى جمهورية رئاسية، تمنحه عبر صناديق الاقتراع هيمنة سلطانية وسيطرة كاملة على مقاليد الحكم، وتجعل منه «ديكتاتوريًّا» بشهادة أئمة الديمقراطية الغربية وشيوخها وفقهائها المعتبرين؟
وألَم يُصبِح أيضاً من اللائق أن نوقف المهزلة التمثيلية المعروفة بالديمقراطية في مصر؟ ونواجه أنفسنا بالواقع، وبأننا فشلنا في تحقيق قدر مقبول من «إقامة حياة ديمقراطية سليمة» الذي كان من فرط أهميته مبدأ من مبادئ ثورة يوليو عام 1952.
فمنذ أن حصلت مصر على استقلالها المزعوم بدستور 1923، وبدأت معرفتها بالحياة الحزبية والبرلمانية، تنوعت فيها أشكال الممارسة السياسية، وقامت فيها أحزاب كثيرة، لكنها لم تَصِل قَطُّ إلى حد الممارسة الفعلية للحياة الحزبية، كانت قبل الثورة مسرحية يديرها القصر الملكي، وأصبحت بعدها ديكورًا يتغير بتغير البطل (الرئيس)، من ديكور فقير ووحيد تغير اسمه من هيئة التحرير إلى الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي في العهد الناصري، إلى منابر ثلاثة منفتحة على طريقة الرئيس المؤمن أنور السادات، والتي تحولت إلى أحزاب سياسية ورثها خليفته مبارك تحولت خلال حكمه إلى ديكور يحيط الحزب الوطني الحاكم الذي احترق في 28 يناير 2011، وانتهى دوره السياسي للأبد.
أما النظام المصري الحالي فقد تسلَّم الحكم عام 2014 وقائمة الأحزاب السياسية في مصر تجاوزت الـ100 حزب (والرقم على مسئولية صحيفة «الأهرام»)، لكن عندما أُجرِيَت انتخابات البرلمان واجه القائمونَ على المشهد السياسي مشكلةَ استحالة حصول أيِّ حزب سياسي على أغلبية برلمانية تُمَكِّنه من تشكيل الحكومة وإدارة الدولة كما نص الدستور، وهو ما أدى إلى تكوين جماعة مصالح كبيرة تحت شعار «دعم مصر» حلًّا لهذه المعضلة.
وقيام جماعة «دعم مصر» واستمرارها، أنهى دور الأحزاب كأهم آليات العمل السياسي، ويرجع ذلك كما يحلله د. محمد كمال أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة قائلًا: «السياسة وأدواتها مثل الأحزاب والبرلمان، هي اختراع بشري، مثلها مثل أجهزة التليفون والكمبيوتر، ولكن هذه الأدوات الأخيرة تمَّت إعادة اختراعها وتطويرها أكثر من مرة، من التليفون الثابت للمحمول إلى التليفون الذكي، ومن أجهزة الكمبيوتر التي تملأ حجرة بأكملها إلى الكمبيوتر الشخصي. ولكن للأسف فإن السياسة وآلياتها الأساسية لم تشهد مثل هذا الحجم والسرعة في التطوير، حتى تجمد بعضها أو انتهت صلاحيته أو أصبح غير ملائم للعصر الذي نعيش فيه».
وللحديث بقية إن شاء الله.