كمواطن مصري، وكصحفي متخصص في الشأن القضائي، أتابع عن كثب كل الأحكام القضائية التي تصدر في القضايا التي تلاقي اهتماما إعلاميا، سواء لغرابتها أو قسوة الجرائم أو أهمية أطراف القضية كأشخاص مشاهير أو ذوي مناصب حساسة، وغالبا تنتهي تلك القضايا بسرعة ملحوظة، بدءا من القبض على المتهم أو المتهمين ومرورا بالتحقيقات والإحالة للمحاكمة، ثم إصدار الحكم.
ومع كامل الاحترام للقضاء المصري المعروف بنزاهته وسلطته الحرة، إلا أن هناك ما يدعو للتأمل في إصدار تلك الأحكام بهذه السرعة، وفي الأغلب فإن شخص القاضي والمحقق لا يختلف كثيرا عن شخص المواطن الطبيعي، ففي النهاية هو بشر، يتأثر بالمجتمع ويؤثر فيه، ومع التأثير المحتم للإعلام ووسائل التواصل الجماهيري والضغط الإعلامي والشعبي في قضايا بعينها، فإن المنظومة القضائية تتعامل مع تلك النوعية من القضايا باهتمام غير موجود في غيرها من القضايا العادية، التي لا يسلط الإعلام سهامه نحوها.
من هنا نخشى أن يميل ميزان العدالة الصامد ناحية الاهتمام الإعلامي، وينحرف قليلا في الناحية المعاكسة لقضايا المواطن البسيط، مفرقا بين متهم وضحية لا يعرف الإعلام طريقهما، وبين آخرين لم ترحمهما أضواء الشهرة والمناصب حتى في المحاكمات، سواء كانوا فنانين أو لاعبي كرة قدم أو ساسة أو حتى لعب الإعلام دورا بالصدفة في الدفع بقضاياهم لمقدمة اهتمامات الرأي العام، ما يدفع تلقائيا بقضاياهم في مقدمة اهتمامات المحاكم والهيئات القضائية.
في المقابل، فإن الآلاف من الحقوق الجنائية والمدنية تنتظر من يعيدها لأصحابها، وينفض الغبار من على تلك الملفات المهترئة في أدراج النيابات ودوائر الجنايات والجنح ومحاكم الاستئناف والنقض والأسرة والاقتصادية وكل القضايا العالقة، ولا شك أن هناك من ينتظر الفصل فيها، فهنا قد تجد قضية تتجول في أروقة المحاكم بالسنوات ولا تجد من ينهيها، وتطول إجراءات التقاضي بما يضمن كفر المواطن بالعدالة، وفي كثير من الأحيان تتسبب إجراءات التقاضي في يأس المتقاضين وربنا تركهم الدعاوى ونسيان أمرها.
وعلى الرغم من أن تحقيق العدالة المتأخرة أفضل من الظلم الناجز، إلا أن فلسفة التقاضي نفسها تقتضي النظر بنفس العين إلى كل الدعاوى المقامة، لا فرق بين رئيس وخفير، فكل منهما قد يكون صاحب حق يحتاج استعادته الآن، وقد يكون كل منهما أذنب، ويجب معاقبته فورا قصاصا منه على ارتكاب جريمة بعينها، وإن كان القضاء يفعل ذلك فعلا في عدم التفرقة بين المتقاضين في الحقوق والواجبات والإجراءات، إلا أن المساواة أيضا تقتضي أن يتحقق العدل بنفس المنوال، وفي ذات المدة، وبنفس المعدل حتى ولو صار أبطأ في الحالتين، فالمساواة في الظلم عدل.
كل ذلك فيما هو ملموس ومحقق من قضايا، وهو ما يمكن تحقيق العدالة الناجزة والمتساوية فيه، غير أن هناك كل لحظة جريمة ترتكب في حق أشخاص وفي حق المجتمع وفي حق الوطن، ولا يتم الإبلاغ أو لا يتم التوصل للمتهم، أو حتى يصدر حكم ضده ولا يتم تنفيذه لعدم أهمية الأمر بالنسبة للبعض، وهو أمر وإن كان خارجا عن إرادة منظومة القضاء نفسه، لكنه يستحق العمل بجهد من إدارات البحث الجنائي وتنفيذ الأحكام بوزارة الداخلية، وأيضا يستحق التوجيه والاهتمام من الجهات القضائية، لاستعادة حقوق العباد، قبل أن يسألهم عنها رب العباد.