نقلًا عن جريدة الدستور
كتبتُ بعد لحظات من تفجير الكنيستَيْنِ في طنطا والإسكندرية على حسابي في «Facebook» ما نصُّه:
«وجع رهيب أن تستيقظ على دماء زكية وطاهرة لإخوة لك ذهبوا يُصلُّون لله. إن كلمات التعازي لن تُوفِّي ولا تكفِي ولن تحييَ ولا تشفي، لكنها ضرورة لكي نتكاتف شركاء وطن واحد.. نساند إخوتنا ونتحمل صراخهم وغضبهم.
رب ارحم مَن مات… واشفِ كلَّ مصاب.. وارزُق المكلومين بالصبر..
إن تفجير كنيستَيْ طنطا والإسكندرية، خُطِّط له أن يكون يوم احتفال الأقباط بأحد السعف (الشعانين) الذي يوافق ذكرى دخول السيد المسيح للقدس، ليبدأ ونبدأ معه أسبوع الآلام، قبل أيام من عيد القيامة المجيد، وهو اختيار يعكس رغبة متوحشة في تحطيم قلوب المصريين..
المؤسف أن عدد القتلى والمصابين كان يتزايد على شريط الأخبار… وخبر (غَبِي) يطارده يقول إن الحكومة قَرَّرَتْ صرف عشرة آلاف جنيه لكل متوفًّى وخمسة آلاف لكل مصاب في تفجير كنيسة مار جرجس».
لم أجد تعليقًا يليق إلا أن أختم مواساتي بهشتاج (#مصر_أقوى_من_الإرهاب)، داعيًا المولى عز وجل إلى أن يحفظَ وطني الغالي وأهلي الطيبين مسيحيينَ ومسلمين.
وبعد دقائقَ من نشرِ «البوست» فُوجِئْتُ بشخصٍ يبادرني بالحديث على «Facebook Messenger»، ودار بيننا هذا الحوار:
– أستاذ محمد.
* أهلًا وسهلًا.
– أهلًا وسهلًا بيك.. حضرتك لسه ناشر بوست من شوية بتتكلم فيه عن حادث التفجير، وأنا معاك في كل كلمة فيه، بس نقطة الترحُّم على كافر دي مش في ديننا، مش في الإسلام، لا النبي عملها ولا ربنا أمر بيها، بالعكس قال تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم).. فإحنا مبنترحَّمْش على غير مسلمين، إحنا بنحزن لحزنهم وبنفرح لفرحهم وبنعيش معاهم زي الإخوة ما دمنا بنتعامل بإنسانيتنا ومبنعاديش بعض، لكن فيه حدود في الدين مش لازم نتعداها، وديننا بيقول لنا في الحالات دي نعزيهم ونقول: ربنا يجعلها آخر الأحزان. وما إلى ذلك.. طبعا حضرتك أكبر من النصح بشكل عام ولكن هو من باب التذكير، والأمر لك أولًا وأخيرًا.
* ربنا يرحمهم ويرحمنا ويرحم أهل الأرض أجمعين.. الكفار قبل المسلمين.. هذه دعوة مجازية تختلف عن فهم بعض المتشددين لها.. وربنا يرشدك ويرشدنا إلي الحق والخير والعلم الحقيقي.. وشكرًا على اهتمامك بالنصح والتذكير وحرية الاختيار. أولًا وأخيرًا.
– بارك الله لك أستاذنا وشكرا لسعة صدرك.
* أنت طالب في الأزهر مش كده؟
– كده.. بس مال دراستي بحوارنا؟
* أعتقد من حقي أعرف مين اللي بيتحاور معايا؟
– يا سيدي الفاضل من إمتى الناس بتِتْعِرِف بكليتها، أنا لما شفت بوست حضرتك مهمنيش غير اسمك اللي هنادي حضرتك بيه فقط.. أما تقبُّلك للحوار وثقافتك دي بتتكشف من الحوار نفسه، والحمد لله حضرتك متقبِّل.
* أعتقد برضه من حقي أختار الطريقة اللي أتعرف بيها على الأشخاص وأكوِّن بيها وجهة نظر عنهم.. مش من حقك تفرض عليا ده.. المهم.
– المهم؟
* عندي لك نصيحة.. ولي عندك طلب.
– لا أرفض من المحترمين.
* أما النصيحة فلا تكَفِّر أحدًا حتى لو حمل لافتة كتب عليها: «أنا كافر»، لأن هذا حق الله فقط، هو من يمنح صكوك الكفر والإيمان لمن يشاء من خلقه.
– واللهِ ما بكفَّر حد.. (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالثُ ثلاثة).. هنعترض على ربنا؟
* نصيحتي واضحة.. والآية تؤكدها.. هذا حق الله له وحده.. الله هو من يكفِّر ويتعامل مع عباده بهذه الصفة.. أما إحنا فدورنا نتعامل بحب وود مع كل الناس..
– ما كان للنبي (والذين آمنوا).. حضرتك مؤمن؟
* مش من حقك تسألني السؤال لأن ده من حق ربنا بس.. مش من حق أي بني آدم يسأله أو يتناقش فيه أصلًا.. اتعامِلْ معايا كإنسان بيشاركك في الحياة.. مش مهم ديني ولا درجة إيماني.. دي أمور تخصّ علاقتي بربنا وعلاقة ربنا بيا.
– يا أستاذنا حضرتك روح لأي شيخ بتحبه، أي رجل يمتّ للدين بصلة، وحضرتك بتثق فيه، بلاش.. روح لأي عالم إسلامي قديم.. روح لأي موقع، لأي أقوال صحابة لأي حاجة.. اسأل هل (المسيحيين) كفار ولا عيب نقول عليهم كده؟ لو حد قالك غير لأ مش كفار، أنا أول من يقول آمين.
* لا أحتاج إلى أن أسأل أحدًا لأنني استفتيتُ قلبي.. لا يحق لي أن أحكم على إيمان أو كفر أي أحد.. هذا حق أصيل للخالق عز وجل ولا يشاركه فيه أحد..
– استفتاء القلب مكانش هيخلي حضرتك تصلي العصر كمان ساعة.. إحنا بنتبع أسس.. ده دين يا أستاذنا.. مش موقف.
* لا تسحبني إلي حَوَارِي الفقه يا عزيزي أنا أتحدث عن (الكفر) و(التكفير) فقط.. وحديثي معك نصيحة وليس مناصحة.. عفوًا لن أطيل عليك لكن كما أسلفتُ: لي أيضًا عندك طلب.
– اتفضل كلامك على راسي.
* عايز استأذنك في نشر حوارنا.. في كل الأحوال من حقي أستخدم جزءًا من مضمون الحوار بدون ذكر أسماء.. بس أنا أفضِّل يبقى بموافقتك.
– تمام، لو حضرتك هتنشر وجهة نظري كاملةً مضافة لوجهة نظر حضرتك القيِّمَة مفيش أي مشاكل، لكن من غير كلام يُقحِمُني في حوارات.
* أكيد.. إن شاء الله.
– ربنا يوفقك وشكرًا لسعة صدرك ووقتك.
* الشكر لك يا أستاذ.
انتهى الحوار، الذي أسعدني فيه نضج وجرأة الطالب المحاور، والذي لا يعيبه أرائه الفقهية التي أوضح في حواره مصادرها، وقد بحثت بالفعل على الانترنت ولم أجد شيخا (من مشايخ الانترنت المجهولين) يختلف عما قاله، وهذا لا يعني صحة حديثه بل يعني أن هناك غياب تام من ساحة النزال الفكري للأراء الفقهية الصحيحة والمعتبرة، كما أن هناك غياب تام لمن يتحاور مع الشباب، وأكررها.. يتحاور.. لا أن يفرض رأيه.
ولقد جاهدت ساعات لأصل إلى صوت يعتد به ومرجع ينسب إليه رأي ديني في هذه المسألة، حتى وصلت إلى فيديو من حلقة قديمة لبرنامج “ممكن” للإعلامي خيري رمضان يظهر فيها ضيفيه الشيخ الدكتور أسامة الأزهري والداعية اليمني الحبيب علي الجفري، وكان رد الأزهري على جواز الترحم على موتى المسيحيين، والذي أستهله بالآية الكريمة من سورة الأنبياء (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)، ثم أكمل قائلا: «باب الرحمة واسع جَعَلَه الله تعالى مقصد الرسالة المحمدية بأن تسع (الرحمة) الخلق جميعًا، فلا تضيِّقوه في وجوه الناس»!
وأما حديث «الكفر» من عدمه فنستند فيه إلى كلماتِ الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب في أحد أحاديثه التلفزيونية حيث قال: «مسألة الكفر مصطلح إضافيّ أو نسبيّ يعني إنكار الشيء، فمثلًا بعض كُتَّابِنا ومنهم زكي نجيب محمود (رحمه الله) كان يستعمل (أنا مؤمن بكذا وكافر بكذا)، في الأفكار، أو في المذاهب الفكرية.. لهذا أنصح الشباب بعدم اللعب بكلمة (الكفر)، لأنه لا يصح الحوار في العقائد بين الأديان».
وأدعو الله أن تنتبه مؤسسة الأزهر إلى هذا الحوار، وتجتهد بالحكم الشرعي والرأي الفقهي المناسب لمصر في 2017، للإجابة على سؤالين أظنهما من أسئلة الساعة بالنسبة لكل المصريين..
– هل أقباط مصر ومسيحيها.. كفار؟
– هل يجوز الترحم على موتى الأقباط ؟
ربما تنقذ الإجابات ضحايا جدد.. وربما ينتبه المجتمع بشكل حقيقي إلى شبابه.
وختاما، أعلم وتعلمون أن الموقف شائك وصعب ويحتاج إلى جهد مضاعف كي نستطيع أن نصل إلى «وطن» يتسع لنا جميعًا، ونعيش فيه بسلام، فالأفكار ملتَبَسَة ومرتبِكَة عند الكثيرين، وعلومُ الدين بحورُها عميقةٌ استعصَى تجديدها وتمصيرها على العلماء المجتهدين الذين نقدر جهدهم ونتعلم من فكرهم. ولكن لأن الاختيار شخصي والحساب (يوم الحساب) فردي سيبقى «القلب» هو دليلنا الواثق الذي نعتمد عليه، وعلى الله قصد السبيل.