نقلًا عن مجلة الفيلم
كانت جدران الحجرة مزدحمة بصفوف الكتب المتراصة، تدل عناوينها على موضوعات تخص الأدب والسينما والفلسفة والسياسة. كان يريد القراءة ليتعرف على الأمور التي تشغل بال الكتّاب والمفكرين، عن أزمة العقل الإنساني.
كان يفكر، وهو يحاول أن يكون حذرا، من الاستماع بالكامل لأحداث الحرب الدولية الدائرة في منطقة أقرب إليه، على بعد خطوتين يكمن (اللا معقول) الذي تجمع عند أقدام البشر.
ثم كتب “شخبطة غير مفهومة!”، وقرر أن يغلق كراسة التدوينات، ليكتب مقالا عن علاقة الأدب والسينما بعنوان :”الأدب كأنه مرسوم بالحبر الصيني على ورق السينما”.
الأدب (إضاءة) السينما
ربما يخلق هذا العنوان الكثير من الجدل بين عشاق السينما ومحبي الأدب. لكنه لا يثير أي جدل لمن يعشق الأثنين: الأدب والسينما.
البعض يسأل لماذا التقليل من السينما، حيث إنك تؤكد أن الأدب هو إضاءة للسينما، وكأنها معتمة. والسؤال أي سينما أقصد؟
السينما التي تهتم بتقنيات جمالية، ربما تكون مبهرة، دون الاهتمام بالفكرة، بعصب الفيلم، بالحبكة. تهتم بـ”رص” النجوم في أفيش فيلم باهت، لا يقول شيئا، ولا يتذكره المشاهد فور خروجه من العرض.
لكن السؤال الملح بالأكثر أي أدب يصلح ليكون (إضاءة) للسينما؟
كل أدب عظيم له عالمه الخاص، وليس مجرد كلمات مهلهلة وشخصيات ناقصة التكوين الجمالي الفني.
المخرج والكاتب والمنظر الروسي الكبير “أندريه تاركوفسكي” أشار في كتابه ” النحت في الزمن”، ترجمه للعربية أمين صالح، والصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2006، إلى أن ” كل شيء فني يولد ويعيش وفقا لقوانينه الخاصة، المستقلة. عندما يتحدث البعض عن معايير أو قواعد محددة للسينما؛ فإنهم يضعونها في تجاور مع الأدب. وفي رأيي من المهم سبر التفاعل بين السينما والأدب، وكشفه كليا قدر المستطاع، بحيث يمكن أخيرا فصلهما عن بعضهما البعض، وعدم الخلط بينهما مرة أخرى. بأي النواحي يتماثل الأدب والسينما ويتصلان؟ ما الذي يربطهما؟ قبل كل شيء هناك تلك التجربة الاستثنائية، الفريدة، التي يتمتع بها أصحاب المهنة، في كلا الحقلين، في اختيار ما يريدونه مما يقدمه لهم العالم الحقيقي”.
وبشكل حاسم قال تاركوفسكي في كتابه:” إن هوية الفيلم يستحيل إدراكها أو تمييزها من قراءة السيناريو. السيناريو يموت في الفيلم. السينما قد تستعير الحوار من الأدب. وهذا كل شيء”.
تكمن الاجابة أيضا في كتاب لوي دي جانيتي ” فهم السينما .. السينما والأدب”، ترجمة جعفر علي، منشورات عيون:” نادرا ما يستطيع كبار الروائيين والشعراء والمسرحيين أن يكونوا كتّابا جيدين للنصوص السينمائية؛ لأنهم ببساطة يتجهون إلى إساءة فهم طبيعة هذا الوسيط”.
قال أحدهم إن مسألة التقريب بين اللغة الفيلمية والروائية، والتحويل اللغوي للخطاب الفيلمي داخل النص الأدبي شكّل لعقود عديدة موضوع جدل كبير في الأوساط الأدبية والسينمائية. فهناك من يرى أنه لا يمكن الجمع على الإطلاق بين الأدب والسينما على مستوى الكتابة، لأن طبيعة اللغتين ومادتيهما مختلفتان تماما، وهو الرأي الذي يذهب إليه على سبيل المثال الروائي الفرنسي جون ريكاردو، الناقد جون ميتري والمخرج السويدي انغمار برجمان.
في حين يرى البعض الآخر وأهمهم المخرج الروسي ايزينشتاين، المخرج الإيطالي فدريكو فلليني، مارسيل مارتن، سكوت فتزجيرالد وجراهام جرين، أن السينما أقرب الفنون إلى الأدب، لاشتراكهما في عنصر جوهري هو “السرد”.
وعلى قارئ مجلة الفيلم قراءة العدد بتمعن وتأن لعله يكتشف جمال هذا العنصر الجوهري وهو ” السرد”. وهناك كتاب للدكتورة سلمى مبارك بعنوان “النص والصورة: السينما والأدب في ملتقى الطرق”، الصادر في 2015 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، مهم لمن يريد التعرف على ملتقى الطرق بين الأدب والسينما، وليس مفترق الطرق. وبعد صفحات قليلة ستجد تقديم مهم للدكتورة سلمى مبارك بعنوان “الأدب و السينما .. دروب و مجالات جديدة”.
الفكرة أم الصورة؟
في حوار الأديب العظيم”جابريل جارسيا ماركيز” مع المخرج الكبير “أكيرا كوراساوا” (المنشور في هذا العدد) ماركيز يسأله: ما هو أول شئ يخطر ببالك؛ فكرة أم صورة؟
كوراساوا قال: “لا أستطيع إيضاح هذا الأمر بشكل جيد، ولكنى أعتقد أن الأمر يبدأ بالعديد من الصور المتناثرة. وعلى النقيض، أعلم أن كُتاب السيناريو هنا فى اليابان يقومون بخلق توجه عام للسيناريو، ويرتبونه بالمشاهد، ويبدأون الكتابة بعد وضع نظام للحبكة، ولكننى لا أعتقد أن هذه هى الطريقة الصحيحة لفعل الأمر، بما أننا لسنا آلهة”.
إبراهيم أصلان.. أمة بمفرده
هذا العنوان أقتسبه من إحدى مقالات الأستاذ حمدي عبد الرحيم عن الأديب العظيم إبراهيم أصلان؛ الذي كنت أود أن يكون حاضرا معنا الآن، على الأرض، وليس في السماء. إنه الأديب الأعظم في تاريخ الأدب العربي؛ ولو كان ظهر في منطقة أخرى غير العالم العربي لكان من أعلام الأدب العالمي؛ وسوف يكون في وقت ما.
هو الأديب الأمثل لعلاقة الأدب بالسينما، وكيف يمكن أن يكون الأدب وتدا عظيما للسينما؛ بشرط أن يكون المخرج واعيا للفرق بين الوسيط الأدبي والوسيط السينمائي في توصيل الحبكة والفكرة والشخصيات. ولأصلان تجربتان: الأولى ناجحة، والثانية أثيرت جدلا عن اقتباس السينما لعمل أدبي.
“لم يحدث أبدا أن الشيخ حسني قال، صراحة، إنه يرى. ولكنه أوحى للشيخ جنيد بذلك لأنه تصرف معه، منذ الوهلة الأولى، تصرف الرجل الذي يرى. كان يطلب منه أن يصعد، أو ينزل، أو ينحرف ليتفادى حفرة أو طوبة، ويتوقف في الطريق ليصافح الناس، الذي يراهم ويعرفهم، ويقلب له الشاي، ويصف النساء، كما كان يقطع كلامه لينظر في ساعته ويخبره عن الوقت.
..وتوقف الشيخ حسني على حافة الشاطئ وقال :”مساء الخير يا واد يا زين”. ورد زين المراكبي من تحت أوراق الخروع الكثيفة، ورحب بالشيخ قائلا:” أهلا يا مولانا”.
وأتجه هو بالكلام إلى الشيخ جنيد وسأله عن رأيه لو أستأجر فلوكة، وقبل أن يرد عليه أخذه من تحب أبطه وهو يقول :” والله فكرة يا واد يا زين”.
وسمع زين الكلام فصعد الدرج الحجري وهو يحكم لفّ الكوفيه على رقبته وأذنيه، وهمس في أذن الشيخ محرجا أن يدع ذلك الموضوع جانبا:” والنبي يا شيخ حسني”.
وشب الشيخ على أصابع قدميه وهمس في أذن الشيخ جنيد بأن الولد خائف بسبب ظروف الشيخ جنيد نفسه. قالها دون حياء ثم ألتفت إلى زين وأخبره بصوت عالٍ أنه يعرف سبب خوفه ولا داعي لأي كلمة زيادة في هذا الموضوع. وطلب منه أن لا يخاف وأخبره بأنهما سوف يظلان إلى جوار الشاطيء ولن يدخلا في الغميق”.
المشهد السابق من رواية أصلان ” مالك الحزين” التي تحولت إلى فيلم سينمائي، هو “الكيت كات” للمخرج داود عبد السيد، وهو يعد علامة في تاريخ السينما، ويعد علامة بارزة في علاقة الأدب والسينما، وكيف يمكن أن يكون الأدب (مشهدا ناضرا) للسينما.
إعادة انتاج الحياة
في هذا العدد الذي يجمع موضوعين الأدب والسينما “وإعادة انتاج الحياة”، يشارك معنا كتّاب جدد، هم نخبة ثقافية وسينمائية لمن يريد أن يستمتع: د. سلمى مبارك، شعبان يوسف، مصطفى بيومي، محمد حربي، كرم نوح، أمير رمسيس، محمود الغيطاني، أشرف الصباغ، داليا السجيني، أسماء إبراهيم، إيمان عز الدين، محمد طارق، وأماني صالح، فضلا عن الزملاء والأصدقاء والأساتذة الذين يثرون أعداد مجلة الفيلم: صفاء الليثي، د. وليد الخشاب، وعرب لطفي، ومعهم صديقي حسن شعراوي. كلهم يقدمون للقارئ العزيز مادة مهمة عن علاقة السينما والأدب، لكي ننهض بصناعة السينما المصرية والعربية المتأزمة، أولا في آليات الصناعة نفسها، وثانيا في أفكارها المتجددة، وثالثا لمواجهة التوحش السلطوي، الذي لا يؤمن بدور الفن والثقافة، ولمحاربة كل أزمات العقل الإنساني، الذي لن ينهض إلا بتنويره وتثويره عبر الفلسفة والأدب والسينما وكل الفنون، التي تكتشف ثقافة الشعوب وتعبر عنها، وتحافظ عليها أمام تعليب الإنسان في هذا الزمن العالمي المدمر.
*العنوان إيحاء من مقال كتبه “إبراهيم أصلان” عن الروائي “ارنست همنجواي“