انشغلت مختلف وسائل الإعلام، وشبكات التواصل الاجتماعي، طوال الأيام الماضية، ولا تزال، ببراءة المصرية الأمريكية آية حجازي، ومقدمات هذه البراءة، وعلى رأسها الحبس الاحتياطي الممتد لثلاث سنوات قبل الحكم بالبراءة، وكذلك توابعها، وفي مقدمتها استحضار البيت الأبيض لآية على متن طائرة عسكرية أمريكية، لمقابلة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب شخصياً، تباينت الحقائق، وتداخلت الهواجس، وغاب صوت الدولة كالمعتاد بشأن مثل هذه القضايا مختلطة الملفات والأوراق، وكلما زاد اهتمام الرأي العام بالموضوع، كلما ازدادت الدولة إصراراً على تجاهله، وكأنه لا يتعلق بقضايا مصيرية تهمنا جميعاً وطناً ومواطنين، وبصرف النظر هنا عن الأشخاص جميعهم، محل أو أطراف أزمة آية حجازي، أو حتى من يقفون على خط التماس معها من قريب أو من بعيد.
ومثل هذه القضايا المعقدة، متشابكة النوايا والوقائع، والأفعال وردود الأفعال، والأوجه القانونية والسياسية، والتوجهات الوطنية والإنسانية، ثم الرؤى ووجهات النظر، قياساً على تجارب وخبرات كل منا، وتقييمه للواقع، ونظرته للمستقبل،كل هذا يجعل من التفكيك الحيادي الهادئ، خالص النية لله وبلدنا وأهلها، أمراً كالقبض على الجمر لمثل هذه القضايا، لاسيما ونحن نعيش حالة يغلفها انفعال آسر، وحماس أهوج، لا يستطيعان حتى الصبر لقراءة الأوضاع، والإلمام بالتفاصيل، حتى نحكم عقلنا، فنقيم بالأساس المبدأ والمنهج، تمهيداً لتصويب أوضاع مختلة، فتستمر كما هي، بل وتزداد اختلالاً،بينما نفور نحن ونهدأ من آن لآخر، بمناسبة قضية يتصدر مشهدها شخص هنا أو آخر هناك، وفي كل الأحوال نجلد أنفسنا وبلدنا والقائمين عليها بلا رحمة.
وفي محاولة للاجتهاد ليس إلا، أسوق هنا بعض الهوامش على براءة آية ومقدماتها وتوابعها، باحثاً عن راحة البال في زمن عزت فيه الراحة على اختلاف أشكالها، ولابد وأن تكون البداية مع الدولة، بل ومع رأس الدولة شخصياً، الرئيس عبد الفتاح السيسي، كنت قد حملت نفسك في مطلع حكمهم مخاطبة الناس مرة على الأقل شهرياً، حرصاً منك على تفعيل التواصل المباشر معهم، وبمرور الوقت تعددت المسئوليات، وزادت الهموم، واختلفت الأولويات، فأصبحت تنتظر مناسبة هنا، أو مؤتمراً هناك حتى تتواصل معنا، ولعل الدولة رأت في بعض وسائل إعلامنا، إمكانية القيام بهذا الدور، ولكن فاتها، أن مصداقية إعلامنا في عمومه، قد نفذ رصيدها تباعاً عند جموع المصريين، على مدار السنوات الستة الماضية.
مخاطبة مؤسسة الرئاسة لجموع المصريين، بشكل دوري، وخاصة حال وقوع الأزمات، أمر صار حتمياً، في ظل معارك نفسية طاحنة، سلاحها الأقوى اليوم، في يد الأشقاء والأصدقاء، قبل الحلفاء والأعداء، هو إعلام الإيحاء،ونستحضر هنا نموذج مؤسسة الرئاسة في عهد الرئيس السابق المستشار عدلي منصور، حين اشتمل هيكلها التنظيمي على متحدث إعلامي، وآخر سياسي واستراتيجي، ونتحدث هنا عن فاعلية النموذج وقتها، وبصرف النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا على شخص من كان يشغلهما، فآفة حارتنا الآن شخصنة الأمور، مهما كانت مصيرية أو أهمية مضمونها، وما يؤيد ضرورة الطرح، أنه تقليد دولي لا يزال راسخاً في إدارة شئون الحكم، بل وصار عليه حكامنا السابقون جميعهم، وكان فاعلاً ومؤثراً، رضينا عنهم أم لم نرض.
أتوقف قليلاً الآن، فأجمع شتات تركيزي، وأستحضر كامل انتباهي، حتى أنجو بنفسي ومن معي ممن يتحملون مسئولية النشر عني، فأعرض هامشي التالي المتعلق بمنظومة القضاء المصري،فنحن أحوج ما نكون إلى إعادة النظر مبدئياً في مفهوم التعليق على أحكام القضاء، فالقانون والمنطق وجهان لعملة واحدة، والمنطق هنا لا يقبل فكرة تقييد الحرية بالحبس الاحتياطي إلى أجل غير مسمى، أو تجاوز آجاله المسماة قانوناً بأي حال من الأحوال، ولأي سبب من الأسباب، ويستوي الحكم عندي هنا أياً كان شخص المتهم، فآفة أخرى لحارتنا الآن،أن صراخنا ينطلق عالياً في مواجهة الحبس الاحتياطي إذا تعلق الأمر بفلان، بينما علان يطول حبسه الاحتياطي هناك لمدة أو مدد أطول، ودون أدنى صوت أو صدى.
وعن وضع القضاء في مواطن الشبهات السياسية، قد يطول الحديث رغماً عنا دون حرج، وقبل أن نلام هنا، نذكر مرة أخرى، أنكم جميعاً صامتون، سلطات الدولة جميعها آفتها الصمت والتجاهل والاستهانة في مواجهتنا، تلحون علينا في كل وقت وحين، أن نبدأ بأنفسنا في سبيل إصلاح أحوالنا، بينما تنتظرون المبادرة من بعضكم البعض فيما يتعلق بإصلاح أحوالكم، وإن كنا نتحدث عن إعادة هيكلة الدولة، في كل قطاعاتها، فالحديث أبداً لا يستثني أحداً، وليس أفضل من أن يأتي إصلاح كل منظومة من الداخل، فأهل كل مكة أدرى بشعابها، ولم ننتظر يوماً من القضاء المصري إلا أن يكون مثلاً وقدوة يحتذي بها الآخرون، أنتم أولى بالحرص على استقلال القضاء، ونحن أولى بالحرص عليكم.
ويأتي الحديث ذو شجون عن العمل الخيري، أو الأهلي، أو المدني، ولا نراه إلا برد المسميات إلى أصولها، فقد ساد الضباب سنوات وراء سنوات، حتى غطى المشهد تماماً، فتاهت الأصول، وتشعبت الفروع، واختلطت الأنشطة بغير مسمياتها،إذا اخترت العمل السياسي فلتذهب إلى الأحزاب السياسية، وإن حدثتني عن ضعفها، أو اختراقها أمنياً، فأذكرك بأنه يأتي دائماً من الداخل، فلولا أن البيت من زجاج، ما كان تصدع الدستور والمصريين الأحرار، وإذا أردت العمل الخيري الأهلي المدني، فهو ليس إلا توحيد الجهود الذاتية، نحو تنمية مجتمعنا وأهله بأيدينا، ومن جيوبنا، وليس بأيدي الآخرين، أو من جيوبهم، وكل نشاط له قوانينه التي تحكمه، والواجب إتباعها قبل الشروع في ممارسة أي نشاط، وإلا صار جريمة.
أما آية حجازي، فموقفها في الأمر برمته، لم يختلف عن مواقف مختلف مؤسسات الدولة في قضيتها، فقد غاب اتساق واستقامة وشفافية الأفعال وردود الأفعال، عنها وعنهم، وإن تعددت علامات استفهاماتنا، فهي تتساوى في مواجهتهم جميعاً، لا أرى في القضية بكاملها بريئاً أو مظلوماً إلا نحن، المفعول بنا من كل الأطراف، وفي كل الأوقات، ومع مختلف القضايا، ولا نلوم أنفسنا إلا على انسياقنا بلا وعي وراء الجميع، وانطلاقنا في كل المواقف من زوايا شخصية بحتة، قوامها ليس إلا مشاعر سطحية في حب فلان أو كره علان، وأبشركم بأن دوام الحال مائلاً هكذا ليس من المحال،طالما استمرت أحوال الجميع على ما هي عليه!!.