رباب طلعت
لعل أفضل ما يُقال عنه في ذكرى مولده الـ106، هو ما وصفته به صديقته المقربة ماري منيب، بأنه “فنان بلدي والبلدي يوكل”، معبرة عن حالته الفنية الفريدة، التي لم تتكرر قط بقولها له: “الفن مش جورنال يا شوكشوك.. الفن ده موهبة من عند ربنا.. مش بالتعليم بس”، هو المونولوجست، والفنان، وابن البلد، الذي لم يخلع جلبابه أبدًا، فأسر القلوب دون تكلف، ففقط يكفيه الغناء بـ”خفة دم”، راقصًا: “الهاشا باشا تاكا والهاشا باشا تك.. يعني وبعدين معاكَ يا ساقيني المر تك”، ليعبر عن حالة حب نبتت بين أروقة حارته الصغيرة، أو يعاتب الحبيبة بدلال مرددًا: “حلو الحلو في كل خصاله إلا دلاله ميعجبنيش”، ويبرر لها: ” قالوا بيهجر قلت وماله يهجر يهجر بس يعيش حلو حلو”، أو يشجع الصناعة المصرية، مغنيًا: “حبيب شغل كايرو.. مافيش في القلب زيه.. يموت هو في عذابي أموت أنا في ضفايره.. حبيب شغل كايرو”، أو يشعل الثورة على المحتل بـ”يا جارحة القلب بقزازة.. لماذا الهجر ده لماذا”، معلنًا أنه “إما الجلاء أو القلم السبعاء”.
عبرت بعض أغاني ومونولوجهات محمود الذي ألصق به جده في السجلات الرسمية اسم “شكوكو”، تيمنًا بديكه الرومي، القوي الذي كان يربيه، ويعجب بصوت صياحه، الذي كان أشبه بـ”ش كوكو”، عن حياته، بالصدفة، لتخلد اسمه بين ألحانها، فمن أول ولادته يوم 1 مايو 1912، الموافق للاحتفال بعيد العمال، الذي اعتبر نفسه دائمًا واحدًا منهم، فهو النجار الأمي الذي ترك مهنة والده للغناء في الأفراح بطريقته الشعبية، فشجع صناعتهم المصرية، لإيمانه بأن “صنع في مصر” علامة الجودة، فغنى “حبيبي شغل كايرو.. مفيش في القلب زيه. يموت هو في عذابي وأموت أنا في ضفايره”.
ولم يقبل “ابن البلد”، الذي ذاع صيته، في الأفراح الشعبية، أن يتخلى عن “توبه”، فالناس أحبوه بـ”الجلباب”، لذا قرر أن يظل به، فهو يتناسب مع لون غنائه، والفئة التي يخاطبها، والتي خرج منها، فقرر الصعود على المسرح أمام الجمهور، بطريقة مبتكرة وهي إضافة الشال على وسطه، والذي أصبح لصيقًا له في كافة حفلاته، وأدى أمام الجماهير لأول مرة مونولوج “ورد عليك.. فل عليك.. يا مجنني يا مجنني بسحر عنيك.. ورد عليك فل عليك.. يا ورد يا ابيض غار النهار منك.. آه يا ورد يا ابيض من الياسمين باس الندي خدك بوست أنا الخدين”.
كما قرر “شكوكو”، الذي كان يخجل من نفسه، في بدايات دخوله إلى عالم الفن، كونه لا يقرأ ولا يكتب، أن يكسر خجله، ويعلم نفسه، فكان يوقف المارة في الشوارع ليقرءون له اللافتات وواجهات المتاجر، ويرددها ورائهم، ويصورها في ذاكرته كي يتذكر شكل الكلمة ولا ينساها، ويشتري مجلة “البعكوكة”، ذائعة الصيت وقتها، ويطلب ممن حوله قراءتها له، حتى تعلم الكتابة والقراءة، وأصبح يغني بكلمات عربية فصحى صغيرة، ضمن مونولوجهاته، ببساطة تشبه روحه، قائلًا: “حبيتك حبًا جمًا.. والروح بهواك مهتمة”
ولم يقتصر شغفه في التعلم والتطوير من نفسه، ومحاكاة جميع الفئات إلى التوجه للغناء بكلمات عربية فصحى فقط، بل تعلم بعض الإنجليزية، والفرنسية الدارجة وقتها، ليخترع مصطلح “الفرانكو آراب”، كما يسمى حاليًا، ويذهب للكاتب فتحي قورة، ويخبره بأنه سمع كلمة إنجليزية أعجبته وهي “أشوف وشك تومورو”، و”أز يو لايك أز يو وييتش قول يا روحي ديش ديش”، ويريد أن يدخلها في كلمات أغنية جديدة، كما غنى للحبيب قائلًا: “قوي قوي.. فيري فيري.. يبيع في قلبي ويشتري”.
وبالرغم من اختلاف شخصية “شكوكو” داخل منزله، فهو فيه شخصية هادئة، ليست كثيرة الكلام والضحك، عكس ما هو عليه في خارج البيت، إلا أنه ومن حبه في حفيدته أميرة، قرر أن يغني لها أغنية ألهمته كلماتها، بسبب عدم استطاعتها على نطق الكلمات بشكل سليم، فأخرج مونولوجه “البنت صغنتتة.. وحصلي بخبطة”.
ومن أوبريت “الحبيب المجهول”، الذي قدمه أمام الفنانة الكبيرة ليلى مراد، طالبًا يدها، مغنيًا لها: “من ناحية قلبي ونار قلبي وأتحب بموت.. وحبيبي لو غاب يوم عني أرقع ميت صوت”، بإبداع خطف أذن موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، الذي طلب منه أن يعطيه الفرصة لتلحين أحد أغانيه مداعبًا إياه قائلًا: “أصل صوتك فيه بحة عاجبني.. وعاوز ألحن لك حاجة تانية”، فأهداه “يا جارحة القلب بقزازة.. لماذا الهجر ده لماذا؟”، والتي حققت له شهرة واسعة، لدرجة أن معجبيه صنعوا له تماثيلًا، بزيه المعتاد الجلباب والطاقية والشال على منتصف الوسط والعصا.
لم يقتصر نجاح الأغنية، التي لحنها له موسيقار الأجيال عند هذا الحد، فالفدائيين، المناهضين للاحتلال، استخدموا التماثيل المصنوعة له كوسيلة، لشراء الزجاجات الفارغة من الناس لشدة حبهم له، بدلًا من تقديمها للشركات لإعادة تصنيعها، لتسخيرها كمولوتوف، يستهدفون به الضباط الإنجليز، لإجبارهم على الرحيل من مصر، فأصبحوا يصيحون في الشوارع “شكوكو بقزازة”، ليكن له دورًا وطنيًا غير مقصودًا منه، إلا أنه دعمه، فلقد سبق له، وحث على الوقوف في وجه الاحتلال، من خلال فيلمه، “عنتر ولبلب”، الذي كان يردد فيه “إما الجلاء أو القلم السبعاء”.
وفي أشد الأوقات التي مرت عليه، عبر عن الجرح والألم مغنيًا، “جرحروني وقفلوا الاجزاخانات..لا قالولي ازيك ولا سلامات”، ولعل من تلك المواقف الشديدة التي شهدها في حياته، كانت الموقف المحرج الذي وضعته فيه جريدة “أخبار اليوم”، بعدما أطلقت حملة ساخرة، أشاعت فيها أن “شكوكو” سيترشح أمام مصطفى النحاس باشا، على عضوية البرلمان، ما تسبب في استنكار الكثيرين وقتها، وعرض شعبية المونولجست للخطر، لشعبية النحاس وقتها، واعتباره زعيمًا للأمة، فتدخلت أم كلثوم، وحدثت كل من مصطفى وعلي أمين اللذان كانا يرأسان الصحيفة وقتها، كي يوقفا الحملة، وهو ما حدث بالفعل، ولم يكن ذلك التدخل إلا اعترافًا من أم كلثوم بجميل “شكوكو”، الذي تخلى عن مكانه في مسرح الأزبكية، لكي تقدم حفلتها، وألغى حفلته، بل وفرش لها الأرض بسجادة وزهور حمراء، ووضع وردة في غرفتها، ما جعلها تبكي من الفرحة.
كما كان لـ”شكوكو” الذي لم يتزوج سوى مرتين، أنجب خلالها أبنائه الثلاثة، فلسفته الخاصة في الحب، والرومانسية، ففي بدايات الحب ومراوغة الحبيب، لكي يقع في شباك الغرام غنى: “ليلي طال ليله لا.. ليلي طال ليله لا.. قلبي مال.. قلبه لا”، وأغنيته الأشهر “الهاشا باشا تاكا والهاشا باشا تك يعني وبعدين معاكا يا ساقيني المر سك مراية الحب عميا بنورها مش أوي نار الحب حامية وأنا فيها بـأنشوي”.
أما في الغزل والصبر على دلال الحبيب، غنى “شكوكو”: “حلو الحلو بكل خصاله.. إلا دلاله ميعجبنيش.. قالوا بيهجر قلت وماله.. يهجر يهجر بس يعيش.. حلو الحلو”، كما وصف الحبيب، في غزله بـ”الملبن” الحلوى الشعبية، إسقاطًا منه على جمال فتيات المناطق الشعبية مرددًا في أحد مشاهده النادرة التي لا يرتدي بها الجلباب في فيلم “شباك حبيبي”، مع أنور وجدي ونور الهدى: “آه يا ملبن حاشيينك ملبن.. عملوك إزاي أنت يا ملبن.. حلواني يا واد في جمالك داب.. مشافتش العين زيك ملبن يا ملبن”
ولم يغب الحبيب عن بال “شكوكو” في دخول شهر رمضان الكريم، فاحتفل به بطريقته الخاصة، مغنيًا: “حبك شمعة وقلبي فانوس وبتلعبي.. يا ما هواك غرمني فلوس إرحم قلبي”.
كما كانت للرياضة حيزًا في حياة “شكوكو” الذي كان يشجع النادي الأهلي، إلا أنه قرر أن يهنئ الزمالك بطريقته، لفوزه بالدوري، مفاجئًا جمهوره في المسرح بغنائه: “من قلبي ليك يا زمالك تهنئة حارة مبروك عليك الدوري 1500 مرة، أنا جيت أهني للفرح ولو إني أهلاوي عقبال ما ألقى التهاني من زملكاوي”.
ولم يقتصر إبداع “شكوكو” وترابط أغانيه بحياته، بشكل أو بآخر، إلى المونولجهات فقط، بل امتدت أيضًا لفن الماريونيت ومسرح العرائس الذي كان أول من أنشأه في مصر، فالطفل “شكوكو” الذي كان يقلد أصوات الحيوانات، التي تربيها والدته، ونشر الخشب وأًصوات الورش المحيطة بورشة نجارة أبيه، حول موهبته إلى مسرح الأراجوزات، وصنع عرائسه بيده، لكي تتناسب مع الشخصيات التي يرسمها في مخيلته، وكما أحس بهم، رافضًا تولي أي أحد تلك المهمة، نقل موهبته إلى المسرح أمام الجمهور، في العديد من الأعمال الخالدة.