سيعيش “موسيقار البهجة” إبراهيم رجب كما عاشت ألحانه.. كما عاشت مصر التي غنّى لها وغنينا معه جميعًا في كل مناسبة “تعيشي يا بلدي.. يا بلدي تعيشي”. خمسون عامًا مرّت على تلحينه هذه الأغنية؛ بعد أسبوع واحد على هزيمة يونيو 1967.. خمسون عامًا لم تهزم هذا اللحن العبقري في بساطته.. مرّت السنوات وانتصرت مصر، وفي كل مناسبة للألم والفرحة كانت هذه الأغنية تحديدًا حاضرة على كل شاشة وأثير ولسان، لكنّ مبدعها الأصلي لم يكن كذلك للأسف. لم ننس أبدًا واحدة من أغنياته التي لحنها حبًا في مصر والأطفال والدراما.. لكننا نسيناه – كما ننسى كل جميل وأصيل – في زحمة الفضائيات وغثاء ملحني الجمل الموسيقية المسروقة. و”المطبوخة”.
كان الرجل راضيًا بقراره حين اعتزل التلحين؛ بناء على نصائح الأطباء؛ وإن كان لا يُخفي في الوقت نفسه مرارة تسكن نبرات صوته ودقات قلبه حين يتحدث عن حال الأغنية مؤخرًا.. إهمال اسمه عند عرض أعماله في الإذاعة والتليفزيون.. معاناته في الحصول على “حق الأداء العلني” عن ألحانه في الأفلام والمسلسلات والبرامج والفوازير وغيرها، وعن جُمل موسيقية مسروقة من ألحانه تحقق الشهرة والمال لملحنين آخرين مللنا ظهورهم على الشاشات بمناسبة ودون مناسبة.
مات إبراهيم رجب بعد 3 أشهر منذ آخر مرة سمعت فيها صوته المُبهج – خلال إجازتي السنوية الأخيرة في مصر- كنت أزور معرض القاهرة الدولي للكتاب، ومن بعيد؛ سمعت بداية اللحن المميز لأغنية “تعيشي يا بلدي” من داخل إحدى القاعات التي خصصتها وزارة الثقافة لعروض الفرق الموسيقية بقصور الثقافة والهواة. انتقلت سريعًا إلى مصدر الصوت، فوجدتها فرقة موسيقية من المكفوفين تغني اللحن بأفضل ما يكون. تفاعل الحضور مع اللحن وأعضاء الفرقة بشكل أخرجني فورًا من “حالة نفسية محبطة”! هتف الحضور راغبين في إعادة الأغنية؛ وقد كان. وثّقت المشهد بكاميرا الهاتف؛ أملًا في أن يفرح به الرجل الذي أنهكه المرض، و”حدّد إقامته” في منزله الدافئ في “سكة راتب” بالسيد زينب.
خرجت من القاعة لأتصل به وأصف له المشهد، وأعتذر له عن انشغالي خلال الإجازة القصيرة عن زيارته كالعادة، أبهجني “موسيقار البهجة” بتعليقاته، وسؤاله عن ابنتي أمل التي لم يرها إلا عبر “فيس بوك”، لكنّه أقلقني بنبرة صوته المرتعشة تأثرًا بزيادة أحمال المرض عليه هذه المرة، وانتهت المكالمة على وعد بلقاء قريب.. لم يتم، فقد سافرت خارج مصر في اليوم التالي.
كنت “غبيًا” بقدر ما تعاملت بـ”أمان” مع فكرة أن “اللُقا نصيب”.. اعتقدت أنّي بذلك أخفف على الرجل في مرضه، وسأكتفي بمونتاج فيديو الأغنية ورفعه على “يوتيوب” وإرساله له ليفرح به كما فرحت.. لكن الموت كان أسرع من “كسلي” وانشغالي.
عرفت الرجل الطيب قبل 7 سنوات، وكان الكاتب الصحفي محمد العسيري، نائب رئيس تحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون وقتها، سببًا في هذه المعرفة. كنت أشارك في الإعداد لبرنامج وثائقي على قناة النيل للأخبار قبل ثورة يناير، وطرح العسيري اسم الموسيقار الأصيل، وبحثنا عن رقم الهاتف للتواصل معه، وحضر الرجل إلى مبنى “ماسبيرو” معتذرًا عن عدم قدرته على استخدام العود في العزف، لكنّه أدهش الحضور بذاكرته وهو يغني بعضًا من أعماله.. ذاكرته التي تحتفظ بتفاصيل مرّت عليها أكثر من 60 سنة.. ذاكرة تستحضر بفخر وعزة نفس تفاصيل عمله طفلًا في ورش الميكانيكا و”رص” الحروف في المطابع الأميرية، قبل دراسته للموسيقى.
أكتب هذه الكلمات بينما أستمع إلى إبراهيم رجب يغني بنبرته القريبة إلى القلب كلمات محمد العجمي “تعيشي واسمك في الكون بيلالي”. سمعت الأغنية مئات المرات، بأصوات ماهر العطار وشريفة فاضل و”الكورال” في الكثير من الحفلات الحيّة والمسجلة، لكنني هذه المرة أسمعها والدموع تغالبني… هل هي نبرة صوت الملحن العالِم بتفاصيل الأداء الصحيح للحنه الجميل، خصوصًا وهو يقول “يا بلدنا.. يا بلدنا” على طريقته، أم لأنها المرة الأولى التي أسمع فيها الأغنية وإبراهيم رجب ليس حيًا بيننا بجسده.. ليس على بُعد “كام محطة مترو”، ليس على بُعد “رنة تليفون” أسمع بعدها أحلى نكتة وأصدق ضحكة، أم أنّه الشعور المرعب بالفقد و”قلة الحيلة” والعجز حتى عن حضور الجنازة لظروف البقاء خارج مصر..
لا أعرف السبب يا “عم إبراهيم”، لكن ما أعرفه حقًا أنك لو رأيت دموعي الآن وأنا أسمع الأغنية بصوتك؛ لسمعت ضحكتك وأنت تقول كعادتك: “سمعت آخر نكتة؟”