ليس الكتاب بالبساطة التي تبدو للقارئ من الاسم والغلاف ومن التعريفات التي تكتب عنه في بعض المواقع والصحف.
فالكتاب لا يرصد ظاهرة محاباة الأشرار في السينما الغربية وفي رواياتها فقط ، بل الأمر أكثر تفصيلا من الرصد بكثير، ويتناول كليات -بعضها باختصار وبعضها بتفصيل- تفيد في تفسير العديد من الظواهر والتغيرات السلوكية حتى في محيطك الصغير دون ارتباط بالسينما والتأثير الثقافي للأعمال الفنية.
نرشح لك : معتز عبد الرحمن: ماذا خسرنا بتشويه الدراما لكفار قريش؟!
أظن أنه من الممكن اعتباري قارئا خاصا لهذا الكتاب ، وتنبع هذه الخصوصية في أنني لم أشاهد ربما فوق 90% من الأعمال التي يتخذها الكتاب كأمثلة وأدلة على استنتاجاته، بل ما شاهدته منها يمكن عده على أصابع الأيدي الواحدة، فأنا لم أشاهد أي فيلم للأبطال الخارقين ولم اقرأها ككوميكس في الصغر، ولم تكن تستهوني أصلا في أي مرحلة من مراحل حياتي لأسباب ليس هذا موضعها، ولم أشاهد كل الأفلام الأجنبية المذكورة، كل ما شاهدته من المذكور بضع أفلام إنمي مع أطفالي في السنوات الماضية.
..
لكني كنت أتساءل حتى في شأن المحتوى العربي القديم الذي شاهدناه والذي هو أقل بكثير في عوامل الإبهار من تلك الأفلام الغربية ذات الإنتاج الضخم، لماذا -مثلا- كرهنا ريا وسكينة في فيلم نجمة إبراهيم، وتعاطفنا مع نفس الشخصيتين في المسرحية؟، لماذا بكينا على مقتل إبراهيم الطاير (عادل إمام) أو جابر (نور الشريف في دائرة الانتقام) عندما قتلا في النهاية وهم مجرمون، وكانوا في صراع مع أشرار مثلهم بالضبط؟! لماذا لم نتعاطف مع أحد الأشرار الذين قتلهم جابر رغم أنهم قتلوا غدرا أيضا وباستعطاف شديد؟! ، فقدرة الميديا لا تتوقف عند دفعك للتعاطف مع الأشرار عموما، لكن في الحقيقة هي لديها القدرة على أن تجعلك تتعاطف مع بعضهم دون بعض، رغم أنهم في النهاية كلهم أشرار! وأظن أن فيلم (الأب الروحي) الذي ذكره الكتاب -وأنا لم أشاهده أيضا- ربما يكون مثالا على ذلك أيضا حسب ما عرفت عنه من الكتاب، والأمثلة في التراث العربي نفسه كثيرة، فنفس الأب الذي كنت تتمنى أن يبقى نائما حتى لا يكشف تسلل ابنته مع عشيقها ليلا ، هو الذي كنت تتمنى أن يستيقظ في فيلم آخر ليكشف تسلل شرير آخر ربما ولده المدمن مثلا ليسرق ماله!، فكيف يحدث الفرق؟
..
الفرق يحدث بالعبارة العبقرية التي جاءت في الكتاب (إننا نسند أفعال الأغراب لصفاتهم، ونسند أفعالنا وأفعال من نحب لما يقتضيه الموقف والظروف)، وهذا مُشاهد حتى في تقييم الدعاة والساسة والصحفيين وغيرهم، فقد تقرأ كلاما دون أن تعرف صاحبه فيكون لك منه موقف سلبي جدا فإذا عرفت صاحبه وكان محبوبا لديك، اختلف التقييم وتدخلت الاستدلالات الشخصية في تبرير كلامه، مثل (أنت لا تعرفه جيدا أنا أعرفه وأعرف لماذا يفعل كذا، يجب أن نعذره… إلخ) ، في حين أنه لو كان الاسم غريبا عنه سينسب كلامه لصفاته من النفاق والجبن والبراجماتية وغير ذلك، لا للظروف التي دفعته لذلك والتي تحدث عنها عندما خص الكلام صاحبه.
..
إذن فأول سبيل للتعاطف مع الشرير عموما، أو التعاطف مع شرير أكثر من شرير آخر، هو إيجاد المعرفة الشخصية وبسط مساحة كبيرة للتعرف على جوانب شخصيته ونشأته ودوافعه المختلفة، فإذا أردت تقديم شرير على آخر، ابسط للأول مساحة أكثر من الثاني وعرف المشاهد على جوانبه الإيجابية ودوافعه، رغم أنه عمليا لابد أن للثاني أيضا دوافع وظروف شبيهة وجوانب إيجابية… إلخ..
ستجد -كما ذكر الكتاب- أن الأعمال التقليدية التي يكره فيها الجمهور الشرير مطلقا، تكون عادة مساحة التعارف الخاص بالشرير فيها محدودة أو معدومة، فأنت لا تعلم عنه سوى أنه شرير، يأكل شرا ويشرب شرا، ويكره الأخيار فقط لأنهم أخيار، فلا مجال للتعاطف معه..
..
ولكن ستبقى المعضلة دوما هي أن عدم إعطاء أي مساحة للتعارف على شخصية الشرير في العمل الفني أينعم سيحقق النفور المطلوب منه في نفس المشاهد ولكن في المقابل ستعطي له انطباعا خاطئا عن الأشرار يضره بعد ذلك، وهو ما فصلت فيه في مقال (ماذا خسرنا بتشويه الدراما لكفار قريش) والذي تفضل الكاتب بالاقتباس منه والإشارة إليه مشكورا، ولا داعي لإعادة التفصيل هنا لتجنب الإطالة.
.
إذن ما الحل الأصوب؟
الحل الأصوب في رأيي ألا تغفل الجوانب المختلفة في شخصية ودوافع الشرير حتى تتسم بالواقعية والإفادة للمشاهد والقارئ -لا سيما المراهقين والأطفال- عندما يواجهون الواقع الذي لن يكون فيه الشرير بهذه الصورة القبيحة دائما، ولكن في نفس الوقت يجب تسليط الضوء على أن هناك من تعرض لنفس ظروفه ولم يكن الشر اختياره! فالظروف قد تدفع ولكنها لا تجبر شخصا على ذلك، كما ينبغي إظهار الفرص التي تعرض لهذا الشرير لقلب مساره -وهذا واقع عموما وفي قصة قاتل المائة مثال إيجابي في تراثنا- ومع ذلك يختار الاستمرار في طريقه، وبالتالي فنهايته المستحقة إن جاءت في الدنيا فهي اختياره ولا يستحق معها تعاطفا، وإن أجلت للآخرة فليس في جهنم ظلما له.
.
وهذا أعجبني مثلا في الجزء الأول والثاني من فيلم الرسوم المتحركة (كونغ فو باندا)، أن الشخصية الشريرة في الجزئين والتي كان لكل منها دوافعها وأمراضها النفسية التي تثير نوعا من التعاطف، قابلت فرصة للتوقف وقلب المعادلة، ولكنها اختارت الاستمرار فلم يجد المشاهد تعاطفا عند مقتلها.
..
أجاد الكتاب بالإشارة إلى جذور مشكلة فقدان المطلق (نسبية الخير والشر) وغلبة منهج الغابة (البقاء للأصلح) الذي هو عمليا (البقاء للأقوى) ، والتي تعصف آثارها بالواقع مباشرة، أكثر بكثير من تأثيرها غير المباشر عبر توجيه خيال المؤلفين وإنتاج السينمائيين، فهمت المراد بسهولة متوسطة لأنني كنت قريبا أقرأ في هذا الأمر ولكني أظن أنه يحتاج مزيد تمهيد وتفصيل من أجل القارئ الذي لم يطلع على هذا من قبل.
…
أتمنى كتابا عبقريا آخر لنفس الفريق عن الأشرار في الرؤية الإسلامية، فقد رصد الكتاب هنا الدوافع النفسية العامة ثم البذور الفكرية المنحرفة التي تؤدي لحب الشر وتفشيه في الفن والواقع، وهذا ما أوجبه الكُتاب على أنفسهم فلم يتعرضوا للعلاج وهذا حقهم، ولكن لا يزال في جعبتهم المزيد الذي يحتاجه الناس، فكيف يتعامل الإنسان مع طبيعة التبعية التي ظهرت في اختبار ملغرام، وكيف يتعامل مع طبيعة التحرر من القيود التي ظهرت في تجربة سجن ستانفورد، وكيف تعالج مبادئه وعقائده الإعوجاجات المريعة التي تنتجها الداروينية وتدمير المطلق ومركزية الإنسان في مجال الأخلاق والمجتمع، وغير ذلك..
..
أما عن النصف الأخير من الكتاب والمنصب على أثر المصالح المتبادلة بين صناع الإعلام وصناع القرار وكيف أن هذه الزيجة تتحكم في عقول مئات الملايين وأرواحهم وثرواتهم، وكيف يمكن صناعة حرية وهمية لجوارحك بعد احتفاظ صاحب القرار بعقلك وجل مدخلاته ، فأتركه للقارئ دون تعليق، وإن كان من تعليق لفريق الكتابة فيرجى مع كثرة المعلومات والتواريخ أن يشار لمصادر ومراجع أكثر تزيد الوثوقية وتسهل الاستزادة حتى لا يظنها أحد تصورات أنشأتها نظرية المؤامرة لا سيما أن كثير منها يقص عن اجتماعات ولقاءات واتفاقات لن تكون بطبيعة الحال معلنة في حينها، وإن أعلنت فلن يعلن محتواها.
….
أعجبني الاهتمام بإيضاح معنى المصطلحات المعقدة حتى لا تؤدي لقطع أفكار القارئ باضطراره لإيقاف القراءة للبحث عنها خارج الكتاب وهو أمر يحدث للأسف في كتب كثيرة..
..
ربما هناك المزيد ليقال عن الكتاب وموضوعه المهم الشائك ولكن أكتفي بهذا القدر.. الطويل.