“يحكى أن شجرة يتفرع منها فرعين أحدهما أطلق عليه سكان الغابة “لايت” لأنه يضىء فى الليل والآخر يدعى “بلاك” لأن لا يقف عليه إلا الغربان، وفى أحد الأيام جاء رجل ضخم يحمل فأسا وقطع جذر الشجرة وأسرع الفرعان يختبئان بين الطين، ثم تشابك الفرعان بجذور جديدة أحدهما يمتد للبحر والآخر يمتد لبركان، ومرت الأيام وساد الظلام على يد “بلاك” وكثرت الغربان بينما “لايت” امتدت جذوره بالبحر تغذى الحيتان البيضاء الراقصة، وفى أحد الأيام التف “بلاك” على “لايت” وخنقه معتقدا أن الحيتان ستموت من الجوع وستبقى الغربان هى المستعمر الوحيد ولكن كانت جذور “لايت” طرحت فروعا جديدة تضىء بالنور الذى لا تتحمله الغربان” كانت تحكى لى جدتي تلك القصة لتعلمنى أن الأفكار لا تموت وإن قُتلت تبعث من جديد، وهذا ما يقدمه المخرج تامر كرم والمؤلف محمود جمال فى مسرحية “يوم أن قتلوا الغناء”، حيث خلقا أسطورة جديدة تسرد صراع الخير والشر .
رجل لم يستطع تحقيق حلمه على الأرض وهلك تاركا وراءه ولدين هما «سيلبا» و«مدى» تاه كلاهما فى الأرض واستوطن كل منهما مكانا بعيدا عن الآخر”، بتلك الجملة يدغدغ صوت الفنان نبيل الحلفاوي مشاعرنا وعقولنا عندما يبدأ فى سرد أسطورة “سيلبا” و”مدى” ورغم عدم وجوده على على خشبة المسرح، صوته كان بطلا من أبطال العرض، والشقيقان أحدهما يعشق الغناء والآخر يقدس إله زائف صنعه فى خياله وهو فى حقيقة الأمر مجرد قاطع طريق جرده من ثيابه فى أحد الأيام، وآمن به “سيلبا” لأن الرجل قال له فقط حكمة “الدفء يأتى من شدة البرد.. والبرد موجود فى قلب النار” وغيرت تلك الجملة مصير البلدة بأكملها دون أن يفكر “سيلبا” قليلا أن ربما الرجل سرق الجملة كما يسرق الثياب ، فصنع “سيلبا” من اللص إله يكره الغناء ويعشق الموت.
“هاهو اقترب الطوفان ، سوف نصعد للسفينة ، نحمل معنا حباً وسلام”، وفى الجانب الآخر يستعد “مدى” لبناء سفينته منتظرا الطوفان بعد أن قتل “سيلبا” امرأة تجسد الغناء كانت تغني لطفلها الصغير “أريوس” الذى أخذه “سيلبا” وعلمه القتل وجعل عقله يغفو فى غيبوبة طويلة وتحجر قلبه حتى عجزت عيناه عن البكاء، و فى الجانب المضىء من البلدة تشدو الطيور مع مدى وأهل البلدة يبنون السفينه فى انتظار شمس الخلاص، ” إننا نبني السفينة …. سفينتنا هي الحياة ….. والحياه تدب فينا …. غنائنا طوق النجاة”، نتذكر فى الحال قصة سيدنا نوح وسفينته فندرك أن المؤلف استعان بقصص الأنبياء فى نسج الأسطورة بشكل منظم ودون إقحام أو مباشرة، ومع غلق نور المسرح ورقص الإضاءة وهتافات الموسيقى تشعر وكأنك فى ميدان وليس قاعة عرض، حقا الفن ثورة والثورة فن.
“هكذا يولد الحب من قلب الألم الأمل ومن قلب البرد يولد الدفء.. هكذا يظل الحب صادقا”، اعتدنا أن تكون قصة الحب هى نقطة تحول الأسطورة وتطهير روح البطل من الشر وبداية مساندته للخير، لكن هنا الحب كان حلم أهل البلدة بأكملهم لأن “أريوس” يقتل كل من يعلن حبه، لن يتمكن البطل من الحب لأن مشاعره متجمدة وعقله خامل وقلبه مشتعل لكنه كان يبحث عن شخص يمنحه الحب رغم تلطخ يده بالدماء، ويفشل فى ذلك حتى يجد “مدى” ويخبره أنه مشفق عليه من القسوة التى خلقت سحابا أسود على عينيه يحجب عنه النور، ورغم ذلك يقتل “أريوس” مدى، وبعدها تطارده أرواح القتلى مرددين ” دعني اسكن قلبك ..لتفرق بين الأبيض و الأسود ..الكره و الحب”، بالفعل “أريوس” يحتاج لعالم محب بأكمله يسكن قلبه حتى يتمكن من رؤية النور.
تمكن المخرج تامر كرم، من خلق لوحة تشبه رسومات الرومان الموجودة على معابدهم، جعل الإضاء والديكور يمثلون بالعرض، كما عكس أداء الممثلين براعة المخرج فى توظيف الممثل فى مكانه الصحيح وترك له حرية الإبداع فظهر كل ممثل بشخصيته المستقلة، كان “سيلبا” الشرير ذو الحس الفكاهي، و”مدى” الحكيم الطاهر الذى يغفر زلات الآخرين ويرى السكر فى وسط الملح، والكاهن الماكر صاحب الابتسامة الصفراء التى تحرق ورق الشجر الأخضر، والفتاة الجميلة “كورمن ” التى تشبه الفراشة تترك آثرها حتى بعد رحيلها، والحبيبان ” إفراط ” و ” لوسيلا ” يشبهان الأطفال فى لعبهما وصوت ضحكاتهما ينبت الزهر فى قلب الحجر، والثلاثي المرح ” سومو ” و “فان” و “كوريل” من تمكنوا من خلق البهجة من رحم الحزن، وشباب القرية يشبهون حبوب اللقاح التى تنثر فى الهواء لتطرح الثمار من جديد بعد انتهاء الخريف وحلول الصيف.
“السفينة فكرة .. ولذلك لن يستطيع أحد أن يهدمها .. وإن قتلونا فما المانع أن يموت الإنسان من أجل فكرة آمن بها .. وقريبا سوف تكتمل السفينة .. ونصعد فوقها جميعا فى سلام .. ونزرع فى قلوب الناس السكينة والحب .. ثم ننزل على الأرض الجديدة .. نبنى بيوتا بأوراق الشجر .. ونزرع مكان الدموع السعادة التى ستندفع بقوة من أعيننا لنعرف أن هناك دموعا آخرى جديدة غير تلك التى تندفع من شدة الظلم والفقر ” .. اصنعوا سفنكم وانتظروا الطوفان بقلب مؤمن، وحتما سيأتى فالمؤمن قلبه لا يخونه أبدا.
“يوم أن قتلوا الغناء” من تأليف محمود جمال وبطولة ياسر صادق وعلاء قوقة وحمادة شوشة وطارق صبرى وإيمان الشريف ومحمد ناصر وأداء صوتى للنجم نبيل الحلفاوى وموسيقى أحمد نبيل وديكور د. محمد سعد وملابس مروة منير وتعبير حركى عمرو باتريك وإخراج تامر كرم.