صلاح الدين يوسف بن أيوب، هكذا كان اسمه ولقبه، فيوسف بن أيوب المولود في شمال العراق وبالتحديد في تكريت، يمجده البعض ويحقره البعض الآن، بدون التعامل مع بشريته وأخطائه وخطاياه، قبل إنجازاته وإيجابيات شخصيته، فربما الظرف التاريخي الذي نعيشه من خواء المعرفة، وفراغ العقل، وغياب القدوة، والصراعات السياسية والفكرية في آن واحد، هي من جعلت الرجل في خانة اللغط والقيل والقال..
نرشح لك: قائمة التصريحات والمواقف المثيرة للجدل لـ يوسف زيدان
صلاح الدين عبد الله وخادم العرب
هكذا صوره المخرج العالمي يوسف شاهين في فيلم “الناصر صلاح الدين”، حيث صوره كبطل قومي عروبي ينتمي إلى القومية العربية ومحاربة الأعداء، في دعاية واضحة للقومية العربية حينها، فالفيلم -والذي كان من أشهر الأفلام للفنان أحمد مظهر، والذي قدمه بحنكة تمثيلية تحسب له- لم يكن سوى قصص لملمها صناعه، بعضها تاريخي وبعضها خيالي، فالتاريخي منها مشهد المرأة التي استغاثت بصلاح الدين لكي يبحث عن ابنتها التي خطفها بعض الجنود المسلمين، فالمصادر التاريخية تذكر فصولا من شهامة صلاح الدين مع الفرنجة الصليبيين ومنها هذه القصة، حيث جاءت امرأة من المعسكر الصليبي تطالب صلاح الدين برد ابنتها فأمر بالبحث عنها حتى وجدها وردها، بل من شهامته أيضا ما فعله في القدس بعد التحرير من خروج كل الصليبيين منها مقابل فدية رمزية للرجال والنساء والأطفال، ولم يقبل الرجل أخذ الأموال من الفقراء ودفعها من خزينته..
ركز الفيلم أيضا، في مبالغة كبيرة، على أن مسيحيي العرب حاربوا مع صلاح الدين، وأن شخصية كعيسى العوام المسيحي، من أبرز قادة صلاح الدين، وهذا غير صحيح، فعيسى العوام كان مسلما، وكان من القوات المتطوعة في جيش صلاح الدين.
ومن المبالغات أيضا ذهاب صلاح الدين لريتشارد في خيمته لتطبيبه، وهذا من ضروب الخيال، فصلاح الدين وريتشارد لم يلتقيا على الإطلاق حتى في مفاوضات الصلح بينهما، وقد تولاها أخو صلاح الدين العادل أبو بكر، أما عن حروب ريتشارد ضد صلاح الدين فكانت طويلة وكانت تهدف لاحتلال القدس مرة أخرى بعد حطين، وقد نجح صلاح الدين فيما أنجزه وحافظ على القدس وباقي المدن الإسلامية، عدا مدن الساحل الشامي التي سقطت في يد الصليبيين.
صوّر الفيلم -في مشهد درامي مبالغ فيه- بطولة صلاح الدين وفروسيته في المبارزة بينه وبين “رينو دي شاتيو”، الأمير الفرنسي المغامر، والذي كان سببا -مع آخرين- في هزيمة حطين، فقد أقسم صلاح الدين بأن يقتله بيده جراء ما فعله رينو (أرناط في المصادر العربية) من الهجوم العسكري على المدينة المنورة ومحاولته التهجم على قبر الرسول، مما جعل صلاح الدين يقسم أن يذبحه، وهو ما حدث بعد انتصار حطين .. فالمبارزة لم تكن إلا من خيال صناع الفيلم..
كذلك بعض الشخصيات الخيالية كفرجينيا جميلة الجميلات أو الراهبة الفرنجية المنتمية إلى الأسباترية التي قامت بدورها نادية لطفي ، وعلى ذكر الأسباترية وبعض الفرق العسكرية الأخرى كالداوية، لم يعامل صلاح الدين الأسرى بنفس المظهر الذي راق ليوسف شاهين إبرازه، بل قام الرجل بذبح مئات الأسرى من الأسباترية والداوية لأنهم كانوا الأشرس والأقوى في محاربة المسلمين، فتعمد صلاح الدين في أكثر من مرة قتل هؤلاء، وهو ما يقودنا لذكر قتل الأسرى الذي قام به ريتشارد، والذي صوره الفيلم فعلا، لكن كان صناع الفيلم رحيمين بريتشارد، حيث تم قتل عدد بسيط منهم قبل معرفته الحقيقة، حيث تذكر المصادر التاريخية أن ريتشارد قام بذبح ثلاثة آلاف من الأسرى في عكا، بما يعرف بمذبحة عكا وقد تألم صلاح الدين لذلك..
يصور الفيلم أيضا أن جيش صلاح الدين كان يسوده المرح والمعنويات المرتفعة أثناء حربهم ضد ريتشارد وهذا غير صحيح، حيث عانى الجيش من الانقسامات بعد انتصار حطين وهو ما أجبر صلاح الدين على الصلح مع ريتشارد..
الخلاصة، لم يكن فيلم صلاح الدين ليوسف شاهين إلا دعاية للقومية العربية التي كانت تجتاح الدول العربية وقائدتها مصر ، وذلك أدى إلى استدعاء التاريخ من أجل مهمة مزيفة، فلم يكن صلاح الدين عروبيا، ولا مثاليا ملائكيا بالضرورة كما صوره الفيلم، بل ما كان الرجل إلا مجموعة من العوامل التي كانت مناسبة لعصره..
صلاح الدين الشيطان الرجيم
هكذا يصوره بعض من الناس، ومنهم مثقفون مهتمون بالتراث والمخطوطات أمثال يوسف زيدان، والذي أثيرت حوله ضجة كبيرة بعد تصريحه الأخير حول صلاح الدين وهو ما يقودنا إلى السؤال: هل صلاح الدين من أحقر شخصيات التاريخ الإسلامي بالفعل؟
نرشح لك: يوسف زيدان عن صلاح الدين الأيوبي: أحقر شخصيات التاريخ
أولا: لا يوجد في التاريخ جملة “أحقر شخصية فيه”، حتى عتاة الإجرام ستالين وهتلر وموسيليني وجنكيز خان وهم من هم في باب أشرار التاريخ، وذلك لأن كل إنسان هو مجموعة من عوامل عصره، فصلاح الدين كان يتناسب مع القرن الحادي عشر ولا يتناسب مع الحادي والعشرين، لذلك، بدون مناقشة العوامل هذه لن نحصل على نتائج بالتأكيد.
ثانيا: ربما كانت حالة الصراع السياسي والفكري الموجودة على الساحة هي من تستدعي التاريخ لدى أطراف هذه الصراعات، فالإسلاميين يرون في صلاح الدين قديسا، ويراه العلمانيون شيطانا وهو بين ذلك وذاك، فلم يكلف هؤلاء وأولئك أنفسهم مناقشة تاريخ الرجل بموضوعية تتناسب مع ظروف عصره وعوامل ظهوره والمقاومة التي تكونت حتى قبل مولده، والصراع السني الشيعي الذي كان طرفا فيه، وهو ما يتطلب منا بحوثا جادة حوله، وهو ما يفعله طلبة وأكاديميون ولكن لا أحد يقرأ أو يعي.
ثالثا: قام الدكتور يوسف زيدان بمغالطة تاريخية كبرى عندما قال إن صلاح الدين لم يحارب الصليبيين، وهو ما تغالطه كل الكتب والوثائق والمخطوطات حتى الأوروبية منها، بل قام بإدخال نفسه في خطأ تاريخي عندما قال إن الفاطميين دخلوا مصر عام 258هـ، وهو خطأ، فقد دخلوا بعدها بقرن من الزمان، بل عاد وكرر الخطأ وقال إن الفاطميين من آل البيت، وهو ما كذبته كثير من المصادر وربما كان ابن خلدون وتلميذه المقريزي من أصروا على ذلك، لكن معظم المصادر تحدثت في هذه النقطة أنهم لم يكونوا من آل البيت، ولكن في هذا نظر ونقاش طويل بين المؤرخين..
رابعا: ربما يعلم زيدان أن صلاح الدين كان وزيرا للخليفة العاضد الفاطمي آخر الخلفاء الفاطميين، وأنه هو من عينه، ولم يكن صلاح الدين أول وزير سني لمصر، بل سبقه على سبيل المثال لا الحصر، رضوان بن الولخشي، والذي توسع في بناء المدارس السنية لمحاربة المذهب الشيعي مذهب الفاطميين الحكام، بل لعله تناسى وتغافل أن مدينته التي يعيش فيها الآن (الإسكندرية) كانت من أهم المدن التي حاربت الفاطميين الشيعة الحكام، وكانت مدينة سنية في مصر الشيعية، وبرز فيها شخصيات مشهورة كأبي بكر الطرطوشي صاحب المقام الشهير في الثغر السكندري، بل لعله تغافل أن المد السني وصل لمناطق أخرى في مصر، وكانت الدولة الفاطمية في طور الاحتضار عندما دخل صلاح الدين مصر ووصل إلى وزارتها برغبة العاضد نفسه، فالمذهب الشيعي الإسماعيلي توارى بالفعل قبل دخول صلاح الدين ولم يتبق إلا إعلان الوفاة الرسمي، فظاهرة المد السني سبقت ربما مولد صلاح الدين نفسه وهو ما لم يذكره زيدان، لا أعلم عن جهل أم عن قصد.
أخيرا: هل صلاح الدين ذبح الفاطميين ؟
دعونا نذكر نص ابن الأثير وهو من ألد أعداء صلاح الدين
“في هذه السنة 569هـ، في الثاني من رمضان، صلب صلاح الدين يوسف جماعة من أرادوا الوثوب به من أصحاب الخلفاء العلويين، وذلك بسبب أن جماعة -منهم عمارة اليمني وعبد الصمد الكاتب والقاضي العويرس وداعي الدعاة ومجموعة من جند مصر ورجالتهم في السودان وحاشية القصر- وافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين واتفقوا على استدعاء الفرنج من صقلية وساحل الشام إلى ديار مصر، واتفقوا على الاستدعاء فيخرج صلاح الدين من القاهرة فيثوروا”
أي إن صلاح الدين تعرض لمؤامرة عليه وعلى مصر ككل باستدعاء المحتل، وهو ما كشفه صلاح الدين وقام بمواجهته، فعمليات المؤامرة وقيام صلاح الدين بذبح من يقم بها، حدثت أكثر من مرة مع بقايا الفاطميين وأنصارهم، وهو ما نجده في تاريخ العصور الوسطى أو حتى العصور الحديثة والقريبة العهد أو العصور التي نعيشها الآن.
نرشح لك