“صلاح الدين من أحقر الشخصيات” بهذه الكلمات وصف الأستاذ يوسف زيدان سلطان المسلمين المجمع على نبله ونزاهته من كلا المعسكرين، الشرقي والغربي على حد سواء، المحدثين منهم والأقدمين المعاصرين لعهده. وصف قاسي لا يخرج عن مؤرخ أو ناقد يستخدم منهاجًا علميًا في نقده، فالمؤرخ المتخصص أو الباحث العلمي لا يستخدم صفات مثل (أفضل) أو (أسوأ) أو الأفجع منهما (أحقر) بوصفها أقرب إلى لغة الشارع وفتاوي القهاوي.
ورغم أن الأستاذ يوسف سبق وأن أوضح رأيه السلبي في صلاح الدين في أكثر من موضع كان ضمنهم كتابه (متاهات الوهم – فصل أوهام المصريين) إلا أن أحدًا من المراجعين لم يهتم بالنقد أو التعليق، حتى كان استخدامه للفظة (أحقر) إيذانًا لوسائل الإعلام العربية والغربية أن تتلقف قوله وتنشره، وللجميع فيما بعد ليعلق، أو يشجب، أو يراجع، أو يناضل.
مناورة قد تدلل على أن الأستاذ يوسف أدمن على ما يبدو الفرقعة الإعلامية وإحداث الصدمات المتواليات ليعلو رأيه مقترنًا باسمه كل حين وحين. عرف الرجل طريقه فقد أتى حديثه عن المسجد الأقصى أكله.
للأستاذ يوسف فكرة مفادها أن الضباط الأحرار لما وصلوا إلى سدة الحكم نقبوا في التاريخ عن أبطال عسكريين فخرجوا لنا بنماذج من أمثال صلاح الدين، إرتكنوا إليها وأعادوا تقديمها سينمائيًا ليربطوا بين صورها وصورة زعيم القومية الملهم آنذاك الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وهو رأي صحيح نسبيًا إذ بوسعك أن تلحظ هذه الموائمة متجلية في واحدة من صورها في مشهد من فيلم الناصر لأحمد مظهر يعرف نفسه فيه أمام ملوك أوربا بوصفه (خادم العرب) وهو وصف ما كان لسلطان مسلم ذو أصل غير عربي أن يقوله. كان يكفي السلطان الكردي أن يقول (خادم المسلمين) وحسب.
على أن العادة ظلت عبادة. دارجة، ومألوفة، ومكررة لدرجة إنه حتى وقت قريب كان فيلم (الناصر) يذاع في عيد ميلاد الرئيس السابق مبارك من كل عام.
أتفق مع الأستاذ يوسف وأزيد أن أحمد عرابي نفسه، وكان من أولئك العسكريين المعاد تقديمهم في ثوب جديد، كانت صورته قبل ثورة 52 مغايرة تمامًا لصورته بعدها – بوسع القارئ أن يراجع هجاء أمير الشعراء أحمد شوقي أو رأي المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي فيه حينئذ. وهي آراء أوردتها في روايتي (الياوران).
على أن الأستاذ يوسف يبالغ في النقد فيتهم صلاح الدين ظلمًا أنه أحرق مكتبة القصر الكبير، وهي تهمة جائرة، فمن المعلوم أن كنوز الفاطميين ظلت تباع عشر سنوات بما في ذلك كتبهم التي انتقى منها القاضي الفاضل والعماد الكاتب الأصفهاني مائتي ألف كتاب، حتى بعد أن أرسل بعض الكنوز إلى متبوعه نور الدين زنكي، ذلك الذي يصفه بأنه تعرض للـ (خيانة) من قبل صلاح الدين، وبعضها إلى الخليفة العباسي، وبعضها إلى أمراءه، غير مستبق لنفسه شئ.
كما يتهمه بالتفريق بين رجال الفاطميين ونسائهم فلا يتزاوجوا أو يتناسلوا. وهو قول لم أقرأه أو أسمع به إلا من أستاذ يوسف، لكن حتى لو صح فعلينا إذا أردنا الحكم أن نحكم بميزان هذا الزمان، لا ميزان زماننا. كان هذا زمان يقتل فيه المرشح للحكم خصومه ولو كانوا من أفراد عائلته. فعلها العثمانيين، والمماليك، والأوربيين، وكثير من السلاطين. فأيهما أكبر .. الفصل أم القتل؟ وإذ نرى صلاح الدين يثبت أقدامه في الحكم بطرق مشروعة كزواجه من أرملة أستاذه نور الدين زنكي، يحذر ابنه من طرق غير مشروعة كالقتل في وصاياه التي أوردها ابن شداد.
يحكي كثير من المؤرخين عن صلاح الدين أنه مرض بعد صلح الموصل، فنذر إلى الله لئن شفاه من مرضه أن يجعل كل همه قتال الصليبيين فقط وألا يقاتل بعد ذلك مسلمًا أبدًا، وأن يجعل مهمته المقدسة هي فتح بيت المقدس ولو صرف في سبيل ذلك جميع ما يملك من أموال وذخائر. استجاب الله لدعائه فأبرئه من مرضه ليفي الرجل بنذره، ويفتح المدينة، ويطلق سراح أعدائه متأسيًا بالرسول مع المشركين يوم فتح مكة، معيدًا إلى ملكة القدس أموالها، وإلى الكنيسة زخائرها، بما في ذلك تيمتها الأهم “صليب الصلبوت”.
يقول ابن شداد في موته: وقد مات صلاح الدين ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهمًا ناصرية، ودرهمًا واحدًا ذهبيًا، ولم يخلف ملكًا ولا دارًا ولا عقارًا ولا بستانًا ولا قرية مزروعة.
يكفي أن تعلم عزيزي القارئ لتكتمل صورة صلاح الدين لديك أن الجهاد شغل هذا الرجل عن الحج، فلما عقد صلح الرملة وأراد أن يحج بما يليق بمثله، ويتوقعه الناس من إحسانه، وجد خزانته فارغة فأرجأ حجته لعام تالي، لكن لم يكن هناك عام تال فقد حم القضاء.
هناك الكثير من الأقوال والفعال الطيبة التي وردت لنا عن الرجل لا يسع المجال لذكرها لكننا نكتفي بما ذكرنا.
أرفض إضافة هالة القداسة حول كثير من الأشخاص ومنع الدارسين من إنتقادهم لكني أؤمن في الوقت ذاته بالنقاش العلمي الرصين، والنقد دون استفزاز.
وأحذر من مغالاة كثير من المغامرين في تشنيعهم برموزنا الوطنية، والقومية، والدينية، وما قد تجره من آثار وخيمة على موروثنا الحضاري والإنساني بل وحتى على هويتنا وثقافتنا وشخصيتنا التي ستغدو شيطانية، كافرة بعموم إرثها وماضيها. حال كثير من مثقفينا الآن كحال نحات تعلم علم النحت لكن جل ما فعله بعلمه هو استخدام معاول الهدم، هو يهدم، ولا ينحت، أو يصقل، أو يجمل.