فاتن الوكيل
لا ينتهي الجدل بين الفنانين والنقاد وصناع الفن عموما، حول مفهوم “العالمية”، فبمجرد أن يشارك فنان في فيلم أمريكي ويجاور نجوم هوليوود، يطير البعض من الفرحة، بينما ينتقده البعض الآخر، مؤكدين أنه لم يقدم فن بلاده بل أصبح مجرد وجه عربي في فيلم أجنبي. لكن الفنان الكبير محمود المليجي حسم هذا الأمر عندما قال “الفيلم العربي هيبقى عالمي لما يبقى فيلم عربي”.
المليجي قصد أن نُقدم ليس فقط واقعنا وموضوعاته، لكن أن تكون جميع التفاصيل في العمل “مصرية” من أول الموسيقى التصويرية وحتى الزوايا التي تلتقطها كاميرات المصور والتي نعرف من خلاله “عين المخرج”. وهو عكس ما نراه في معظم الأفلام والأعمال الدرامية والسينمائية حاليا.
لكن هناك نماذج فريدة في تاريخنا الفني كانت بطبيعتها مصرية حتى النخاع، لم تقدم إلا ما يعبر عن روح مصر وتاريخها، فعندما التقى المخرج الكبير شادي عبد السلام مع الفنان “الشاب” وقتها أحمد مرعي، كنا على موعد مع مزيج فني مصري خالص، أنتج لنا فيلما مصريا روحا وحرفة وموضوعا، ومن هنا يمكن أن نقول بثقة إن فيلم “المومياء.. يوم أن تُحصى السنين” هو فيلم مصري عالمي بامتياز.
اليوم مر 77 عاما على ميلاد الفنان الراحل أحمد مرعي، الذي ولد في 15 مايو 1940، بقرية الدواخلية مركز المحلة الكبرى بمحافظة الغربية. وإذا رصدنا أبرز محطات مشواره الفني، نجد أن البداية كانت لامعة جدا، وذلك عندما قرر المخرج شادي عبد السلام إسناد دور بطوله فيلمه الروائي الوحيد “المومياء.. يوم أن تُحصى السنين” إلى هذا الفنان الشاب المعيد بالمعهد العالي للسينما، فأنتج الفيلم عام 1969، وعندها أصبح أحمد مرعي بطل الفيلم العربي الوحيد الذي اختير ضمن أفضل 100 فيلم على مستوى العالم خلال “100 سنة سينما”. وبالرغم من أن الفيلم لم يكن التجربة السينمائية الأول لـ”مرعي” حيث لعب دور “مجدي” في فيلم “النصف الآخر”، عام 1967، إلا أن”المومياء” يعتبر البداية الحقيقية له.
أحمد مرعي أو “ونيس” في “المومياء” كان له الكثير من الحظ المستحق في العمل مع “الفنان” والمخرج شادي عبد السلام، الذي رسم تفاصيل الشخصية وتعبيرات وجهها على الورق، قبل تطبيقها أمام الكاميرا، وبالفعل لم يخذل “مرعي” المخرج الذي وثق به، فاستطاع بصمته وعينيه وتعبيرات وجهه المتضاربة، والمتنوعة بين الحزن والحيرة والضياع والإرادة، أن يعبر عما بداخل “عبد السلام” نفسه ليخرج لنا هذه التحفة الفنية.
لكن فيلم المومياء لم يكن الفيلم الروائي الطويل الوحيد لبطله كما هو لمخرجه، حيث تأتي مرحلة أخرى في حياة أحمد مرعي، شارك خلالها في عدد قليل من الأفلام السينمائية، خاصة فترة السبعينيات، وأشهرها فيلم “أغنية على الممر”، وفيه ظهرت جوانب أخرى من موهبة أحمد مرعي، كان أكثر حركة وتكلما عن فيلم المومياء، حسب ما تطلبه الدور بالطبع.
جسد مرعي فيه دور “حمدي” الفنان المغمور الذي ضاعت أحلامه مع تردي الأذواق، وجارت الكابريهات على أنغام عوده الراقية. روح الفنان التي جعلته ينظر بتأمل لكل ما يدور حوله، كانت مقاتلة ببسالة في جبهة الحرب عقب نكسة 1967. يحكي الفيلم قصة مجموعة قليلة من الجنود المحتجزين في ممر بصحراء سيناء، لم يستسلموا للعدو الصهيوني حتى بعد استشهاد زملائهم وانقطاع تردد اللاسلكي الرابط الوحيد بينهم وبين مقر القيادة، ومن خلال بقائهم معا حتى نهاية الفيلم، نعرف ملامح المجتمع من خلال قصة كل منهم، ومن هنا ظهرت قدرات “مرعي” التمثيلية كما ظلت أغنية “وتعيشي يا ضحكة مصر” التي أداها في الفيلم باقية بصوته.
وفي نفس المرحلة تقريبا وبالعودة قليلا إلى سيرة مخرجنا شادي عبد السلام، نجد أن موهبة أحمد مرعي شجعته على إسناد بطولة أخرى له في عمل من إخراجه، وهو الفيلم القصير “الفلاح الفصيح”، فمرة أخرى يعود مرعي إلى الأجواء الفرعونية، لكن بشخصية من زمن “الجدود” كما يحب “عبد السلام” تسميتهم.
بحوار كأنه كُتب على جدران المعابد الفرعونية، ينطق الفلاح الفصيح بشكواه إلى الوالي، بعد أن سُرق على الطريق من قطاع طرق تابعين لأحد “الأعيان” بتعبير زماننا الحالي، ثم تصل الشكوى إلى الفرعون الذي يأمر بعدم البت فيها إلا بعد أن يفرغ الفلاح من حديثه الحكيم، وكالعادة يتمكن مرعي من التعبير بوجهه طوال مراحل الفيلم عن الحالات النفسية المتغيرة التي يعشيها هذا الفلاح، مع تمكن من نطق اللفظ بشكل صحيح.
تأتي بعد ذلك مرحلة هامة أخرى في مشوار أحمد مرعي، وإن كانت غير مرئية بالشكل الكافي، بالنسبة للمشاهد المصري، ففي الوقت الذي لمع فيه الإنتاج الخليجي، خلال السبعينيات، واجتذب العديد من الفنانين المصريين الكبار، مقدما روايات وشخصيات عربية، نجد رصيدا لـ”مرعي” من الأعمال الدرامية ذات الإنتاج الخليجي، مثل تجسيده شخصية “الخليل بن أحمد الفراهيدي”، ومسلسل “المتنبي” من الإنتاج العراقي.
وخلال تلك المرحلة من حياته، قدم العديد من الأعمال التاريخية القيمة مثل “أحمد بن ماجد”، ودور عز الدين أيبك في مسلسل “شجرة الدر”، وبطولة مسلسل “عنترة” عام 1978، “وسليمان الحلبي” و”ليلة سقوط غرناطة” وغيرهم الكثير.
https://www.youtube.com/watch?v=Zt38ivZdmN8
فيلم عربي وعالمي “جديد” شارك فيه أحمد مرعي، وهو “الرسالة” من إخراج مصطفى العقاد، حيث شارك في نسخته العربية بدور “زيد ابن حارثة”، عام 1976، ومن الواضح أن تلك الفترة كتب خلالها التاريخ الفني الحقيقي له.
لم يكتف أحمد مرعي بالأعمال التاريخية، لكن أعمال درامية أخرى قدمها، مثل “للزمن بقية” مع الفنانة معالي زايد، ومحمود الجندي، وإبراهيم الشامي، ثم يأتي الدور الدرامي الأبرز له مع مسلسل “أولاد آدم” عام 1986، بطولة الفنان الكبير عبد المنعم إبراهيم.
https://www.youtube.com/watch?v=2j0EawlFUA4
الحقيقة أن شخصية أحمد مرعي وملامحه التي خلقت من أجل الفن، كانت جديرة بتجسيد شخصية هاملت على المسرح، لأنها كانت ستعطيه مساحة كبيرة من تقديم خليط من المشاعر المتضاربة التي يبرع “مرعي” في تجسيدها، لكنه بعيدا عن المسرح، قدم بصوته دور هاملت في مسلسل إذاعي سُجل في تاريخ أرشيف الإذاعة المصرية.
بالرغم من أن الفنان أحمد مرعي رحل وهو في الـ 55 من عمره، إلا أن المرض أظهر ملامحه أكبر من عمره الحقيقي، ليرحل في 16 يوليو 1995، تاركا أعمالا كثيرة شاهدنا القليل منها ومازال بعضها مدفونا في مكتبات التلفزيون المصري والعماني والعراقي والإماراتي.