نقلا عن “المصري اليوم”
كان الموقف كما يبدو أمام دار العرض يوحى بأن هناك شيئا غامضا يجرى فى الداخل، لا أحد بالطبع من الممكن أن يخمن، هل مثلا نجم فرنسى كبير سيحضر العرض بحجم جان بول بولموندو، خاصة أننا بصدد شريط سينمائى يتناول جزءا من حياة المخرج جان لوك جودار، وبينهما فيلمهما الأشهر (آخر نفس)، الشعب الفرنسى مولع بنجومه، وبولموندو غائب كثيرا عن التواجد الإعلامى، الزحام يزداد فى سرعة إيقاعه، حيث تدافع المئات من الصحفيين ووقفوا فى عدة طوابير، لا أحد يملك الإجابة، سوى تلك الحواجز الحديدية التى تزداد إحكاما أمام الطوابير لتجيب عن السؤال، بأن الموقف ربما يتجاوز انتظار إشراق نجم أسطورى، ثم صُدرت الأوامر الأمنية، أولا بمنع الدخول رغم أن الموعد قد حان، ثانيا بإبعاد الجميع من أمام دار العرض، ثالثا بأن على كل الموظفين فى القاعة أن يغادروها فورا، وتم استدعاء عناصر الأمن المتخصصة فى المفرقعات فلقد اكتشفوا أنها شائعة ولا توجد قنبلة، أو متفجرات ولا حزام ناسف ولا أى شىء، ربما وجدوا حقيبة فى دار العرض لم يزد الأمر عن كونها حقيبة، نسيها أحد المشاهدين، أمام حالة الاستنفار الأمنى كل شىء من الممكن أن يصبح مصدرا للخوف.
كنت أتابع وأنا أقف أمام دار عرض (دى بى سى) وجوها أعرفها مثل هذه السيدة الرائعة كريستين إيميه، وهى المسؤولة قبل ثلاثة عقود من الزمان أو ربما أكثر قليلا عن المركز الصحفى، تسبقها عادة ابتسامة لا تفارقها وكأنها ولدت بها، تتواجد فى الصباح الباكر فى كل العروض وتقدم للصحفيين حالة من الدفئ والترحاب وهى تستقبلهم، أكاد أجزم بأنها على الأقل من بين 5 آلاف صحفى وناقد وإعلامى يتواجدون بالمهرجان تعرف نحو أسماء ثلاثة آلاف وجنسياتهم، بل وجرائدهم.. أين اختفت ابتسامة كريستين هذه المرة، لا بد أن هناك شيئا جللا، بعد قليل وجدنا كل العاملين والقائمين على تنظيم الصالة التى تضم قرابة 2000 مقعد يغادرونها ويقفون معنا فى الشارع، وجاء أيضا مدير المهرجان تيرى فريمو، وهو من هؤلاء القادرين على إشاعة البهجة على خشبة المسرح، حيث يشارك بين الحين والآخر فى تقديم الأفلام للصحافة ودائما حاضر البديهة، سريع فى العثور على القفشة، التى تتجاوز عادة حاجز اللغة، لتجد الضحكة وقد جمعت كل اللغات، فريمو أيضا ملامحه هذه المرة لا تنبئ سوى أن هناك شيئا غامضا، إنه الخوف الذى تجده فى لحظات وقد احتل مقدمة (الكادر)، وهو فى الحقيقة مبرر، لا تستطيع سوى أن تلتمس العذر لرجال الأمن، نعم بزاوية ما الخوف زائد عن الحد، ولكن الأحداث المروعة التى شهدها الأمن، وكان لفرنسا قسط وافر منها، تجعل الأمر يبدو منطقيا، بل مطلوبا، لأننا بصدد إرهاب بطبعه غشيم ويستهدف قطعا التجمعات، ولن يجد أفضل من تلك اللحظة، لا أتصور أن المهرجان سوى أنه وكعادته سيصدر بيانا توضيحيا لكى يعرف الجميع فى (كان) وخارجها حقيقة ما حدث فى تلك الليلة، فى مثل تلك الأمور لا يُمكن التعتيم، أو التأجيل أو نشر بيان لا يُظهر كل الحقيقة، الخوف استتبع زيادة فى إجراءات الأمن، حتى ولو شاهدناها أقرب لمن ينفخ فى الزبادى بعد أن لسعته الشوربة، ولكن لا بأس، أمام جنون الإرهاب لا ينبغى أن يخجل أحد من النفخ فى الزبادى.
كان من المفترض أن يتم تقديم فيلم (المهيب)، الذى يتناول حياة جان لوك جودار، أحد أعمدة السينما الفرنسية الحديثة، فى السابعة مساء، فتأخر العرض نحو ساعة، جودار، المولود 1930، أحد رواد ما يُعرف بموجة السينما الفرنسية الجديدة، بدأ كناقد على صفحات (كراسات السينما)، وهى لا تزال تُصدر شهريا، أنشأها الناقد الفرنسى الأشهر أندريه بازان، وبعدها تحول جودار للإخراج، حتى إنهم أطلقوا على تلك المجموعة وأفلامهم (سينما القلم)، لأنهم بدأوا فى المطالبة بالتغيير من خلال أقلامهم على صفحات المجلات المتخصصة، وكان معه فرانسوا تريفو وكلود شابرول واريك رو مير وغيرهم، وجميعهم وقفوا خلف الكاميرا كمخرجين، بدأت الموجة الجديدة تعلن عن نفسها نقديا فى مطلع الخمسينيات وأفلامهم لم تنتظر طويلا، فلقد أخرج جودار فيلمه الروائى الأول عام 60 والأكثر شهرة ونجاحا، وحتى الآن يعتبر من كلاسيكيات السينما الفرنسية (آخر نفس)، شاهدنا فيلم (المهيب) الذى يروى جانبا من حياة أيقونة السينما الفرنسية جان لوك جودار، هذا الفنان الذى لا يزال مبدعا ومتألقا حتى إنه قبل ثلاث سنوات حصل على جائزة لجنة التحكيم فى مهرجان كان عن فيلم (وداعا للغة)، الذى صوره على طريقة الأبعاد الثلاثة، ورفض مثلما يفعل عادة كبار المخرجين أن يبتعد عن التنافس، وأصر على العرض فى المسابقة، وهى لا أتصورها جائزة تكريمية لأن لجان التحكيم لا يمكن أن تفكر على هذا النحو، ولكنها تعبر عن أفكار اللجنة حتى لو تناقضت مع قطاع وافر من النقاد كان لهم رأى آخر فى هذا الفيلم التجريبى.
عدد من الأعمال فنية تصبح عند البعض هى «ترمومتر» لقياس الجودة الفنية، وأسماء مبدعين تتحول مع الزمن إلى أيقونات، فى عالمنا العربى يوسف شاهين، وفى فرنسا يصعد على الفور اسم جان لوك جودار.
إنه حفيد صُناع السينما الأوائل، حيث انطلق الفن السابع مع الأخوين (لوميير) لويس وأوجست عام 1895، ومنذ البدايات كانت هناك محاولات لا تنتهى من الإضافات تطورت من خلال خطين متوازيين هما زيادة مساحات التقنية فى الآلات المستخدمة، وكذلك نضج الأفكار على الشريط السينمائى. مثلاً المخرج الساحر الفرنسى جورج ميليس أضاف الكثير للكاميرا، وكان يلون الأشرطة بيديه، وفى فيلم مارتن سكورسيزى «هوجو»، الذى عُرض قبل خمس سنوات فى (كان)، تناول جانباً من حياة «ميليس»، ولهذا دخل التاريخ لأنه أضاف إبداعاً تقنياً وخيالاً، جودار هو معادلة فنية تستند إلى وعى فكرى يشارك فى الحياة، وله رؤية فكرية وسياسية وفنية يطرحها فى أفلامه، ولا تفوته مظاهرة لو كان الشعار الذى ترفعه متوافقا معه، يبدو فظا غالبا فى عدد من تصرفاته، حتى فى ردوده على جمهوره، يطالبونه مثلا بتقديم أفلام من وجهة نظرهم أكثر حميمية مثل (آخر نفس) ولكنه يجيب وماذا عن فيتنام؟، دخل فى معارك من أجل رفع الظلم عن الفلسطينيين، وهى منطقة شائكة نظرا لسطوة النفوذ الإسرائيلى فى صناعة السينما، إلا أنه لم يتراجع.
الفيلم يروى جانبا من حياة جودار ولا يخجل من شىء، فهو لا يعنيه سوى الحقيقة، وبديهى أننا عندما نتحدث عن حياة جودار يصبح هو المرجع الأول لكل الأحداث، هم لا يكذبون وأيضا لا يتجملون، فقط يحاولون الإمساك بالحقيقة، لن تخرج من دار العرض وأنت سعيدا بجودار كإنسان، فهو فظ فى الكثير من تعاملاته، ولكنك فى النهاية ستراه إنسانا. هذا الفيلم كان يليق به أكثر أن يقص شريط افتتاح المهرجان فى تلك الدورة الاستثنائية بدلا من الفيلم الفرنسى الهزيل (أشباح إسماعيل)، (المهيب) فيلم فرنسى المذاق عن مخرج صار عنوانا للسينما الفرنسية فى العالم، يقترب نحو التسعين من عمره لم يفقد قدرته على الإبداع، من المحتمل أنه فى الحدود الدُنيا كان مرشحا للافتتاح، ولكن هناك من رجح فى النهاية كفة الأشباح.
إنها حقا ليلة لا تُنسى فى مهرجان (كان)، بدأت بإشاعة تواجد قنبلة فى دار العرض هزت سكينة المهرجان، وانتهت بفيلم صادم بقدر ما هو صادق عن الأيقونة (جودار)!!.