د/ نرمين سعد الدين
كان شهر رمضان ومازال يصاحبه العديد من العادات المختلفة تماما عن الأيام العادية، التي لم يقطعها المصريين وظلوا متمسكين بها على الرغم من اندثار بعض العادات الأخرى ويعد فانوس رمضان من المظاهر الشعبية الأساسية في مصر والتي منها انتقلت فكرة الفانوس المصري إلى أغلب الدول العربية وأصبح جزء من تقاليد شهر رمضان لاسيما في دمشق وحلب والقدس وغزة وغيرها، قكان المصريين أول من عرف الفانوس، وهو أيضا واحد من الفنون الفلكلورية التي نالت اهتمام الفنانين والدارسين حتى أن البعض قام بدراسة أكاديمية لظهوره وتطوره وارتباطه بشهر الصوم ثم تحويله إلى قطعة جميلة من الديكور العربي في الكثير من البيوت المصرية الحديثة، وقد نوقشت أكثر من رسالة للماجستير والدكتوراه عن تاريخ الفانوس الذي ظل عبر العصور أحد مظاهر رمضان وجزءا لا يتجزأ من احتفالاته ولياليه.
وترجع بدايات الفانوس المصري إلى عصر صدر الإسلام، حيث استخدموه في الإضاءة داخل البيوت والمساجد وزيارة الأصدقاء.
ويرجح بعض الباحثين أن الفانوس تقليد قبطي مرتبط بأعياد الكريسماس حيث كان الناس يستخدمونه بالشموع الملونة في الاحتفال بالكريسماس.
ومعنى كلمة فانوس وأصل كلمة فانوس يعود إلى اللغة الإغريقية التي تعني أحد وسائل الإضاءة، كما يطلق على الفانوس في بعض اللغات اسم فيناس، ويذكر أحد المؤلفين ويدعى الفيروز أبادي مؤلف كتاب القاموس المحيط إلى أن أصل معنى كلمة فانوس هو النمام لأنه يظهر صاحبه وسط الظلام
وهناك العديد من القصص والروايات حول بداية استخدام الفانوس كمصدر للبهجة والإنارة في رمضان إلا أنه من الصعب الوقوف على رواية بعينها لتحديد تاريخ أصل الفانوس الذي يعد من الركائز الأساسية في العادات والتقاليد لشهر رمضان.
فتقول أحد الروايات أن بداية استخدام الفانوس كان مرتبطاً بيوم دخول المعز لدين الله الفاطمي مدينة القاهرة قادما من الغرب، وكان ذلك في يوم الخامس من رمضان عام 358 هجرية، وكان دخوله ليلاً فخرج المصريون في موكب كبير اشترك فيه الرجال والنساء والأطفال على أطراف الصحراء الغربية من ناحية الجيزة للترحيب بالمعز، وكانوا يحملون المشاعل والفوانيس الملونة والمزينة وذلك لإضاءة الطريق إليه.
وهكذا بقيت الفوانيس تضئ الشوارع حتى آخر شهر رمضان، لتصبح عادة يلتزم بها كل سنة، وتحول الفانوس رمزا للفرحة وتقليداً محببا في شهر رمضان .
وهناك رواية أخرى تقول أن الحاكم بأمر الله أصدر أمراً بعدم خروج النساء من بيوتهن سوى في ليل رمضان فقط للتزاور أو الصلاة في المساجد، أمر كذلك بأن يسير غلام أمام كل امرأة حاملاً فانوساً لكي يعرف المارة بأن هناك امرأة تعبر الطريق فيفسحون لها ويغضون من أبصارهم تجاهها.
ويرجح البعض أن أصل الفانوس قد ارتبط بوجود المسحراتي الذي كان يسير في الشوارع ليوقظ الناس ليتناولوا سحورهم، وأن ذلك المسحراتي كان يسير في الشوارع مصطحباً معه ابنه يحمل فانوساً للإنارة، حيث لم تكن كل الشوارع مضاءة بالقناديل.
ومن الروايات الأخري غير القابلة للتصديق القول بأن الخليفة الفاطمي العاضد لدين الله كان يخرج لاستطلاع هلال الشهر بنفسه وحوله العلماء يحملون فوانيس، ومن هنا ارتبط الفانوس برمضان، وعدم تصديق هذه الرواية يرجع إلى أن ما نعرفه هو أن استطلاع الهلال لم يكن عملاً فردياً، بل كان يكلف كبير القضاة ومعه العلماء لإثبات الرؤية وإعلام الناس.
وقد أصدر أيضاً أمرا يلزم كل ساكن أن يعلق فانوساً مضاء فوق بيته، منذ ساعة الغروب إلى حين بزوغ الشمس، طوال شهر رمضان، كما أمر بتعليق الفوانيس على مداخل الحارات، وأبواب المنازل، وفرض غرامات على من يخالف ذلك، وهو ما أدى إلى تطور أشكال الفوانيس واختلاف أحجامها طبقا لاستخداماتها المختلفة، ثم استخدمت فوانيس صغيرة الحجم لإضاءة الطريق، كما صنعت فوانيس أصغر من أجل الأطفال الذين يشاركون في السهر حتى الفجر في ليالي رمضان.
ومن الروايات التي قيلت في هذا أيضاً أن الناس في العصر الفاطمي كانوا يولون الاحتفالات والأعياد اهتماما عظيما، ويتفننون في الإعداد لها، وكان قدوم شهر رمضان مناسبة عظيمة يقوم الناس بتنظيف المدينة وشوارعها، والتجار يقومون بترتيب بضائعهم وتزيين حوانيتهم لاستقبال الشهر، ومن ضمن هذه الاستعدادات كانت فوانيس الإضاءة الجميلة تستخدم في الشوارع والمساجد والحوانيت الأمر الذي جعل الفانوس يرتبط بمقدم رمضان، وليس هناك بالضبط تأريخ دقيق للوقت الذي أصبح فيه الفانوس هدية الآباء لأبنائهم في رمضان، ولكن الثابت أنه تحول إلى موروث شعبي أصيل في مصر.
وهكذا تحول الفانوس من وظيفته الأصلية في الإضاءة ليلاً إلى وظيفة أخرى ترفيهية إبان الدولة الفاطمية حيث راح الأطفال يطوفون الشوارع والأزقة حاملين الفوانيس ويطالبون بالهدايا من أنواع الحلوى التي ابتدعها الفاطميون، حتى أصبح الفانوس مرتبطاً بشهر رمضان وألعاب الأطفال وأغانيهم الشهيرة في هذا الشهر، وبالتالي ارتبط الفانوس بالمسحراتي الذي يجوب الشوارع لإيقاظ الناس في ليالي رمضان حتى إن أول أنواع الفوانيس المعروفة كانت تحمل اسم المسحراتي وهو فانوس صغير القاعدة وله أبواب كبيرة، قبل أن تظهر أشكال أخرى من الفوانيس.
وقد بدأت صناعة الفوانيس منذ العصر الفاطمي تتخذ مساراُ حرفياً وإبداعيا فظهرت طائفة من الحرفيين متخصصين في صناعة الفوانيس بأشكالها المتعددة وتزيينها وزخرفتها حيث كان الفانوس يصنع من النحاس ويوضع بداخله شمعة بعد ذلك أصبح الفانوس يصنع من الصفيح والزجاج الملون مع عمل بعض الفتحات التي تجعل الشمعة تستمر في الاشتعال، ثم بدأت مرحلة أخرى تم فيها تشكيل الصفيح وتلوين الزجاج ووضع بعض النقوش والأشكال، وكان ذلك يتم يدوياً وتستخدم فيه المخلفات الزجاجية والمعدنية، وكان الأمر يحتاج إلى مهارة خاصة ويستغرق وقتا طويلا.
ثم تغير واختلف شكل الفانوس فمن حيث الحجم كان أكبر ويضاء بالزيت والفتيل وله لون واحد لزجاجه الشفاف الذي في الغالب كان يميل للأصفر أو الأزرق.
وتطور الفانوس الشخصي حتي وصل إلي ما عرفناه بشكله التقليدي يصنع من الصاج والزجاج الملون ويضاء من الداخل بشمعة، وبعدها جاء الفانوس أبو لمبة وحجارة وبدلاً من الصاج والزجاج أصبح الفانوس المصنوع من البلاستيك منافساً شرساً للفانوس التقليدي
وتوجد بعض الفوانيس المعقدة من ناحية تصميمها مثل الفانوس المعروف “بالبرلمان “والذي سمى بذلك نسبة إلى فانوس مشابه كان معلقا في قاعة البرلمان المصري في الثلاثينات من القرن الماضي، وكذلك الفانوس المسمى “فاروق” والذي يحمل اسم ملك مصر السابق والذي كان قد صمم خصيصاً لاحتفال القصر الملكي بيوم ميلاده، وتم شراء ما يزيد على 500 فانوس من هذا النوع يومها لتزيين القصر الملكي.
ولم يتشكل الفانوس في صورته الحالية إلا في نهاية القرن التاسع عشر واصبح يستخدم إلى جانب لعب الأطفال في التزيين وإضاءة الشوارع ليلا حتى مع وجود وسائل الإضاءة الحديثة احتفظ بوظيفته في الإنارة في ليالي رمضان.
وقد ظلت صناعة الفانوس تتطور عبر الأزمان حتى ظهر الفانوس الكهربائي الذي يعتمد في إضاءته على البطارية واللمبة بدلا من الشمعة، ولم يقف التطور عند هذا الحد بل غزت الصين مصر ودول العالم الإسلامي بصناعة الفانوس الصيني الذي يضيء ويتكلم ويتحرك بل تحول الأمر إلى ظهور أشكال أخرى غير الفانوس ولكن لا تباع إلا في رمضان تحت اسم “الفانوس، وبعد ذلك أصبح الفانوس يأخذ أشكالا تحاكي مجريات الأحداث والشخصيات الكرتونية المختلفة المشهورة في الوقت الحاضر.
وصناعة الفوانيس ليست صناعة موسمية، ولكنها مستمرة طوال العام حيث يتفنن صناعها في ابتكار أشكال ونماذج مختلفة، وتخزينها ليتم عرضها للبيع في رمضان الذي يعد موسم رواج هذه الصناعة.
وتعد مدينة القاهرة المصرية من أهم المدن الإسلامية التي تزدهر فيها صناعة الفوانيس وهناك مناطق معينة مثل منطقة تحت الربع القريبة من حي الأزهر والغورية ومنطقة بركة الفيل بالسيدة زينب من أهم المناطق التي تخصصت في صناعة الفوانيس، حيث تجد أشهـر ورش الصناعة وكذلك أشهر العائلات التي تتوارثها جيلا بعد جيل.