نقلًا عن “صوت الأزهر”
ليست المشكلة فى الشيخ سالم عبدالجليل أو الأنبا مكارى يونان أو غيرهما من رجال الدين الذين يصرحون بما وقر فى عقائدهم وفق أفهامهم، فأمثالهم كثيرون على مر العصور، يتحدث المسلمون منهم عن الإسلام الذى يؤمنون بأنه دين الحق ولن يقبل الله غيره ديناً، ويعتقد المسيحيون منهم بأن عقيدتهم هى الطريق الوحيد للملكوت ولا طريق غيره ولا خلاص بغيره.
لكن كما تذهب العقائد لتأسيس إيمانها، تذهب كذلك لبناء التعايش والمحبة، وتحفز على التعارف ولا تُحرم الانفتاح على الآخر، وتطلب ترك الآخرة لله وحده صاحب الأمر الذى سيفصل بين الناس.
الأزمة إذن فى الشاشات، ووسائل التواصل هى المستجد الذى يجعلك تبدو كمن تفاجأت بالخطاب العقيدى فيما تعيش بنفسك خطاب التعايش النابع من ذات العقائد ومن قلب نصوصها وفهمها الواضح الصريح.
نحت الشاشات نحو الإثارة.. فقه التعايش لن يجلب أى إثارة أو ترافيك، مَن سيُقبل على سماع قصص التعايش بين الناس على اختلاف أديانهم وبأى كثافة؟ لكن من سيقبل على أن يعرف كيف تنظر عقيدة الآخر له، أو يسعى للرد عليها؟ الأرجح أن حسبة السوق فى جانب الإثارة، لكن حسبة الوطن فى جانب المهنية. والإثارة تكسب المهنية دائماً فى الإعلام المصرى على الأقل فى السنوات العشر الأخيرة.
ما قيمة أن يخرج رجل دين على الشاشات ليفاخر بعقيدته انطلاقاً من الطعن فى عقائد الآخرين، دون أن يفاخر بها انطلاقاً مما تغرسه من قيم وسلوكيات تنفع الناس – كل الناس – وما الهدف من ملاحقة رجال الدين – مسلمين ومسيحيين – بأسئلة وسياقات الهدف منها دائماً الخوض فى العقائد وعقد المقارنات بين الأديان والملل فى غير محفل علمى، وعبر برامج يشاهدها العامة المتنوعون فى مستوى الوعى والثقافة والإدراك وحتى الحماس والانتماء الدينى.
العقائد ليست أندية كرة قدم ولا أحزاب سياسية حتى يصبح «التسخين» بين جمهورها مسلياً ومربحاً، العقائد هى التى تستحق أن تكون خطاً أحمر، لأن اللعب معها لن ينتهى باللعب بدون جمهور، لكنه سينتهى باستدعاء الجمهور – كل الجمهور – للنزول للملعب والدخول فى مرحلة أخرى أشد قسوة وتدميراً من الانفلات والفوضى.
طوال الأزمات السابقة التى تحدث فيها رجال دين عن مسائل عقيدية مثيرة للخلاف، لم يوجه اللوم لهم باعتبارهم خالفوا مسألة عقيدية، لا يمكن أن تلوم شيخاً قال «إن الدين عند الله الإسلام»، ولا قساً قال «لا خلاص إلا بيسوع»، لكن اللوم أن كليهما يهدر ما تزخر به العقيدة من نصوص وأفكار ومعاملات تحض على التعايش والقبول حتى مع اختلاف الإيمان، ويستخدم وسيلة ذائعة الانتشار، لكن لا أحد يوجه اللوم لمن وفر لهذا الشيخ أو ذاك القس المنبر الإعلامى وفتح له المجال بسؤال أو سياق ليرد، وربما حاصره حتى لا تكون لديه إجابة سوى الجهر الواضح بصحة عقيدته وفساد غيرها أو بأن إيمانه هو طريق الخلاص الوحيد ولا خلاص بغيره.
تلك الشاشات التى استباحت العقائد، وفتحت المجال لمقارنات الأديان على الهواء مباشرة هى أصل المشكلة وزيتها ونارها، ولا حل سوى إبعادها عن العقائد، وإذا كان الرهان على وعى وإدراك القائمين على تلك الشاشات يخسر كل مره، كما يخيب الظن ببعض رجال الدين الذين يقعون فى تلك الأفخاخ أو يُستدرجون لها أو يستهدفون شهرة من ورائها، فلا حل بغير قانون واضح ورادع، ربما كان قانون تنظيم الفتوى الذى يعده البرلمان أو قانون تجريم الحض على الكراهية الذى بادر الأزهر بالعمل على إعداده بتوجيه من الإمام الأكبر، أو قانون جديد يخص الإعلام يقصر التناول الدينى فى الإعلام على مسائل العبادات والمعاملات، ويمنع بشكل قاطع وواضح وحاسم وغليظ أى مناقشات إعلامية أو أحاديث متعلقة بأسس الاعتقاد وبموقف أى عقيدة من العقائد الأخرى، لتبقى تلك المواقف والتفسيرات والقناعات كما كانت طوال آلاف السنين داخل غرف العلم والدرس، مع تأسيس هذا الفهم فى غرف العلم والدرس نفسها على أن الموقف العقيدى وإن اختلف لا يرتب أحكاماً قتالية فى غير حرب أو اعتداء، ولا يبيح سفك الدم أو حتى الإيذاء بالقول، وأن يتصدر فهم التعايش فى النصوص على أى فهم آخر، مهما كان استناده.
جنة المسلم.. وملكوت المسيحى، فى يد الله وحده عندما نلقاه، لكن الوطن فى أيدينا جميعاً، فإذا ضاع سندخل جميعنا النار ونحن على قيد الحياة.
أحمد الصاوي، رئيس تحرير جريدة “صوت الأزهر”