تمهيد …
سبحان الذي وهبنا العقل للتمييز … ومنحنا محبته دون أي تفرقة أو تمييز … ووهبنا القدرة على إستمرار محاولاتنا للحفاظ على الأصل و الهوية .. و جعل أغلبنا مستمر في المحبة بصرف النظر عن خانة الديانة التي لا تزال في بطاقة الهوية …. سبحانه الخالق العظيم القوي الغفور ..خالق الإنسان والحيوان و الطبيعة و النور….
أما بعد …
بمناسبة شهر رمضان الكريم .. فهذه سلسلة مقالات متبعة نظام التقسيم .. فلكل مقال حكاية و لكل حكاية أوان … بعضها فيه شكاية و أغلبها محبة و فرح و أمان…. قد تختلف أشخاصها و أماكنها و يظل محورها واحد … الإنسان.
قبل إسبوع قابلت مديري الأوروبي لأول مرة و دعوتة للعشاء في أحد المطاعم .. بعد أن إنتهيت من الأكل وجدته لا يبتسم أبدا رغم ذوقه الجم .. حاولت كسر الجليد بيننا و ضحكت و قولت له الآن أصبح بيننا عهد وفاء … لم يفهم.. فأكملت له.. بيننا عهد يسمى عهد العيش و الملح … لم يفهم فحكيت له هذه الحكاية ….
الأكل عند المصريين له قدسية خاصة و لهذا كان مصطلح ” و عهد العيش و الملح” مجرد أكلنا سويا هو عهد محبة و وفاء غير مصرح به .. و من يخون هذا العهد لا يستحق القبول أبدا في دائرة المحبة ….
يومها سألني .. و ما أصل هذا المصطلح و هذا العهد ؟
قلت له أن أصل هذا المصطلح قديم قدم مصر نفسها …
نحن نطلق على الخبز ” عيش” من “عيشة ” و تعني الحياة هل رأيت شعب آخر يطلق على الخيز “عيش” أو أي كلمة أخرى مشتقة من الحياة ؟ حسب علمي لا يوجد غيرنا .. الخبز له قيمة كبيرة عندنا و هو أساس حياة الفقراء …. أما الملح فهو ما يستخدم للحفظ و البقاء .. إستخدم القدماء المصريين الملح في التحنيط و في الفسيخ و الملوحة لحفظها و إستخدموه طبيا ف التطهير .. الملح هو أساس أي طعام و عدم وجوده يفقده قيمته “حسب الثقافة الشعبية المصرية ” مثلا قالوا ” ماتفسدش الطبخة عشان بصاغ ملح ” كناية عن الشئ القليل الذي يكون له تأثير كبير …
قديما كان الخبز نادرا الوجود في أيام المجاعات و الجفاف لندرة القمح .. فمن شارك جار أو قريب له الخبز كمن شاركه الحق في الحياة ذاتها… و من يبيع من شاركه حياته بعدها فهو خائن .. و أي خيانة !
يومها قال … لا أؤمن بهذا … ولا يوجد مشكلة عندي أبدا من وجود عشاء عمل مع أي إنسان مهما كان قريب أو بعيد…
قررت ألا أكمل النقاش بصورة عاطفية و أستمتع بحاجز الجليد بيننا فالطقس حار أساسا.. و لكل شعب عاداته و إيمانه …
كنت أنوي أن أحكي له عن أهمية أول إفطار في رمضان و ذكرياتي مع إفطار رمضان .. و لكنه لم يهتم .. حسنا سأحكي لكم ..
بمناسبة رمضان .. فالمعروف أن أول رمضان و أول إفطار به .. له للعائلات المصرية فرحة خاصة .. تساوي أو تزيد عن فرحة العيد .. هو لمة العيلة التي يسعى الكل إلى اللحاق بها حتى المسافرين.. يحجزون الطيران و القطارات لحضور هذا اليوم … و يتجمعون من كل النقاط البعيدة حول مركز واحد .. سفرة طعام كبير العائلة… حتى في أوقات الخلافات يحاول الوسطاء من العيلة حلها حتى يأكلوا سويا ..
لا يفوتني رمضان بدون إفطار أو أكثر مع أصدقائي … حقيقة أحب هذه الروح .. هذا الإنتظار و أمامي كوب التمر وفي إنتظار المدفع رغم إني شربت من ربع ساعة بدون أن يلاحظ أحد ممتع حقيقة … و مضحك و مبهج .. و مشاركة العيش و الملح محببة و مفضلة لي . سواء كان في مطعم فخم .. أو في قهوة في الشارع …
لذا تسعى أغلب الشركات في مصر عمل إفطار جماعي للعاملين … “يمكن يحسوا على دمهم لما يبقى بينهم عيش و ملح و يبطلوا يضربوا أسافين في بعض” قالها لي صديق ضاحكا عام 2010 قبل إفطار الشركة بساعة يوما ما…
و لكنهم لم يتوقفوا عما يفعلونه و لهذا بعدها بعام قامت الشركة بصرف مائتي جنيه بدل إفطار جماعي في رمضان ….
فرح الأغلبية بالمبلغ الذي سيوفر لهم وجبة في مكان أفضل.. أما أنا فلا … متعة الطعام لا تأتي بسبب نوعه و مكانه بل بسبب صحبته …
يا صديقي .. قبل أول رمضان لو كانت لك قدرة و بداخلك محبة إذهب لمن يوجد معه خلافات و ذكره بعهد العيش و الملح .. إحكي له عن أصل القصة و تذكرا سويا أيام شاركتما بعضكما الأكل و الشرب و الضحكات و التعليقات .. و جددوا العهد في يوم من أيام رمضان .. وأنا أقبل المشاركة في هذا النوع من الدعوات كشاهد مرحبا … جدا.
لا تنسوا تراثنا و تاريخنا و عهد العيش و الملح.
مع الفقرة الغنائية ….