محمد مصطفى أبو شامة
بعربية ركيكة يجتهد صاحبها في الاستعراض بقدراته اللُّغَوِيّة الضعيفة، وقف جون كاستن السفير البريطاني في القاهرة أمام كاميرا أحد البرامج الفضائية، عقب تفجير مانشستر الأخير، ينعى ضحايا بلاده، ثم قال عبارة عَكَسَتْ هُرَاء ما يعرفه عن اللغة: «لا توجد شماتة في الموت»، التي جاءت في سياق شُكرِه للحكومة المصرية لإعلانها التضامُنَ مع ضحايا التفجيرات، مؤكدًا أن العلاقة بين مصر وبريطانيا جذورُها تمتدُّ بالتاريخ.
هل يدرك كاستن قبح عبارته؟ وهل يمكن أن يفكر أي مصري ويشمت في ضحايا هذه الجريمة المقيتة؟ أم أن سفير الإنجليز يستشعر بداخله بأننا يحق لنا أن نشمت فيهم ونفرح ونرقص طربًا، لأنهم يتجرعون كأس العذاب الذي زرعوه في بلادنا واكتوينا بناره سنوات وسنوات، حتى تمدد الخطر وافترش خريطة العالم كلها، ووصل إلى قلب العاصمة البريطانية لندن وضواحيها الآمنة، وأصبح التفجير سلوكًا يوميًّا اعتاده الإنجليز، وهم يقضمون أظافرهم من الخوف والرعب.
وكانت الشرطة البريطانية قد كشفت عن هُوِيَّة الانتحاري في هجوم على قاعة للحفلات الموسيقية في مانشستر، الأسبوع الماضي، الذي راح ضحيته 22 شخصًا على الأقل، وتبَيَّنَ أنه المواطن البريطاني سلمان العبيدي، الذي وُلِد في مانشستر عام 1994 لأبوين ليبيين.
وأكدت «بي بي سي» في تقرير إخباري مميز أن «والدي عبيدي قد فَرَّا من ليبيا باعتبارهما مناهضَيْنِ لنظام العقيد معمر القذافي. وكانت ليبيا، إلى جانب دول شمال أفريقيا، مركزًا لصعود حركات الإسلام السياسي الحديثة، وكرّست تلك الحركات في البداية للإطاحة بالأنظمة الديكتاتورية، والترويج لفكرة الحكومة الإسلامية، بدرجات متفاوتة».
وكانت مانشستر هي المدينة التي منحت فيها الحكومة البريطانية حق اللجوء لكثيرين من معارضي القذافي، إلى جانب مدينَتَيْ برمنغهام ولندن، وذلك كما أكد التقرير السابق، وأثيرت مؤخرًا الشبهات لدى أجهزة الأمن حول تأييد بعض الليبيين في المملكة المتحدة، لا سيما من مانشستر، لتنظيم القاعدة.
وليس غريبًا على بريطانيا علاقتها بالأصوليين، ولا خافيًا سرُّ المحبة، فوراءها أهداف خفية ومؤامرات دولية، والباحث المهتمّ بهذا الملف المسلِّي والمثير، أنصحه بمراجعة كتاب «التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين»، الذي صدرت ترجمته العربية عن المركز القومي للترجمة بمصر عام 2012، «ويستند الكتاب للوثائق البريطانية الرسمية التي رُفِعَتْ عنها السرِّيَّة، ليفضح تآمر الحكومة البريطانية مع المتطرفين والإرهابيين، دولًا وجماعاتٍ وأفرادًا، في أفغانستان وإيران والعراق وليبيا والبلقان وسوريا وإندونيسيا ومصر، وذلك لتحقيق مصالحها الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية».
مؤلف الكتاب هو مارك كورتيس، صحافي وكاتب ومستشار، عمل زميلًا باحثًا في المعهد الملكي للشئون الدولية ومديرًا لحركة التنمية الدولية ورئيسًا لقسم السياسة في مؤسسة المعونة المسيحية، ويوضح الكتاب دور بريطانيا القيادي والسبَّاق في التآمر مع المتأسلمين، ثم تحوُّلها إلى «جزمة» (بحسب وصف المؤلف) في رِجْل الأمريكيين، تقوم بالأعمال القذرة التي يأنف الأخيرون من القيام بها.
ويكشف الكتاب التفاصيل الكاملة لهذه الأدوار القذرة التي قامت بها بريطانيا وأمريكا طوال القرن العشرين وحتى اليوم، تحديدًا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، فقد أقامت بريطانيا مع القوى الإسلامية المتطرفة تحالفًا استراتيجيًّا دائمًا، ودخلت معها في زواج مصلحة، أثمر هذه الأجنة المشوَّهة الممتدة من أحداث 7/ 7 الشهيرة في لندن، التي راح ضحيتها 52 شخصًا عام 2005، ووصولًا إلى مانشستر 2017، وما بينهما من عمليات إرهابية في بريطانيا.
ويؤكد المؤلف أن بريطانيا قد أسهَمَتْ بشكل كبير في تطوُّرِ الإرهاب العالمي، ويرجع جذور التعاون البريطاني مع الإسلام المتطرف إلى سياسات (فَرِّقْ تَسُدْ) التي اتُّبِعت في عهد الإمبراطورية العظمى، عندما كان المسئولون البريطانيون يسعون بانتظام إلى تعهُّد مجموعات إسلامية للتصدي للقوى الوطنية الناهضة التي كانت تتحدى الهيمنة البريطانية، وحتى مع تراجع الدور الإمبراطوري وتقلص الوجود العسكري في الستينات فإن بريطانيا اعتمدت في الحفاظ على مصالحها بالمنطقة على جماعات إسلامية صنعتها، مثل الإخوان المسلمين.
ويوضح الكتاب أن الجماعات الجهادية وَجَدَتْ ملاذًا آمنًا في بريطانيا، وحصل بعضهم على اللجوء السياسي، مع مواصلة الانخراط في أعمال الإرهاب في الخارج، وتحوَّلَتْ لندن إلى «لندستان» عاصمة الإرهاب، ويظُنّ المؤلف أن بعض العناصر في المؤسسة البريطانية سمحت للجماعات المتأسلمة بأن تعمل انطلاقًا من لندن، ليس فقط لأنها تُقَدِّم معلومات لأجهزة الأمن، ولكن أيضًا لأنها مفيدة بالنسبة للسياسة الخارجية البريطانية، خصوصًا في الحفاظ على شرق أوسط منقسم سياسيًّا.
وختامًا، أقدِّم لسعادة السفير البريطاني خالص التعازي، وأؤكد له أن المصريين لا يشمتون في الموت أبدًا، حتى لو كان موت عدوِّهِم، الذي زَرَع الفتنة بينهم، وتآمَرَ خلال قرن كامل عليهم وعلى أرواحهم، وأؤكد له أيضًا أن المصريين الذين يتابعونه ويمازحونه عبر مواقع التواصل الاجتماعي لخفة ظله (المدروسة) هم كرماء بطبعهم، لكنهم أبدًا لن ينسوا «الكامب» الإنجليزي، الذي استعمر وطننا في الماضي، ولا «الندالة الإنجليزي» التي حولت شرم الشيخ الحزينة إلى فراغ سياحي في الحاضر، ولا شماتة في الموت فعلًا يا عم كاستن، فقط من قلبي: «يا عزيز.. يا عزيز.. كُبَّة تاخد الإنجليز».