نقلًا عن المصري اليوم
مع قناعتى التامة بأن الدراما- سواء السينمائية أو التليفزيونية- ليست أداة من أدوات التوثيق التاريخى، ولا يمكن الاعتماد عليها مطلقاً كمرجع تاريخى، إلا أننى لم أُسْتَفَزّ فى حياتى على أثر تشويه وتزييف التاريخ مثلما حدث عندما شاهدت مسلسل الجماعة 2، وكنت لا يمكن أن أعلق إلا عندما استمعت لمؤلفه، الأستاذ وحيد حامد، الذى لديه إصرار عجيب على أن ما سرده فى مسلسله هو الحقيقة المطلقة، وأنه قد استوثق بشكل علمى من كل حرف قد كتبه.
بودى أن أقول لأستاذى: «عفوا، قد جانَبَكَ الصواب، فقد ارتكبتَ خطيئة فى حق تاريخ الوطنية المصرية.. وأديتَ خدمة جليلة لحركة الإخوان الإرهابية عندما نسبتَ تنظيم الضباط الأحرار لذلك التنظيم الإرهابى، وخلقتَ شبهة الارتباط بينهما»، ولا أعرف مصدر هذه المعلومات التى ذكرها، والتى ليس لها أى أصل تاريخى سوى فى كتب قادة ومؤرخى الإخوان، والعجيب أنه بالفعل قد استند لأحد هؤلاء المؤرخين المعروفين بانتمائهم أو إعجابهم أو تعاطفهم مع مشروع تلك الجماعة الضالّة، ووصل به الأمر أنه قد جعله مُراجِعا تاريخيا لأحداث مسلسله ومرجعية له، ولا أعلم من أين أتاه هذا اليقين بأن الزعيم جمال عبدالناصر قد انضم إلى تنظيمهم وتتلمذ على يد سيد قطب.. المعروف يا سيدى أن جمال عبدالناصر وبدوافع وطنية قد بحث فى كل التنظيمات والأحزاب والحركات السياسية عن ضالّته، فلم يجدها، ويئس من أن يجد فيهم الكيان الوطنى الخالص الذى يستطيع أن يحرر من خلاله البلاد والعباد، فلقد مر وتعرف عن قرب ودرس وحلل أفكار ومناهج وأساليب وبرامج حزب مصر الفتاة والإخوان والحركات الشيوعية مثل (حدتو) والحزب الوطنى والطليعة الوفدية والسعديين وغيرهم، وانضم شكليا لبعضهم ليستطيع التقييم الصحيح، وعندما يئس من أن يجد فى أى منهم ما ينشده بدأت فكرة تنظيم الضباط الأحرار تفرض نفسها حلا وحيدا للخلاص، والشاب جمال عبدالناصر- الذى مارس السياسة منذ صباه وتخرج فى كلية أركان الحرب ودرس الاستراتيجيات والتكتيكات، وكان نهِماً لقراءة دروس التاريخ وعالم السياسة وأساليبها- كل ذلك جعله يدرك أهمية الدعم الشعبى لحركته وضرورة التواصل مع المجتمع المدنى والسياسى، فحافظ على شعرة معاوية بينه وبين كل تلك التنظيمات والأحزاب والحركات، بل إنه قد ضم أنور السادات إلى التنظيم للاستفادة بعلاقاته مع هذا المجتمع السياسى خارج الجيش، رغم وجود علامات استفهام تدور حول انتمائه للحرس الحديدى للملك وعلاقاته المخابراتية بالسفارات الأجنبية، التى وصلت إلى اتهامات له بالعمالة، ولكنه- أى عبدالناصر- كان قادرا على إدارة كل تلك التناقضات والاستفادة بما يمكن الاستفادة منه، وقد طلب من أعضاء الحركة الأساسيين ممن لهم أى علاقات مع أى تنظيم أن يحافظوا على تلك العلاقة، فطلب من الصاغ الأحمر خالد محيى الدين أن يحافظ على علاقته بالتنظيمات الشيوعية، وطلب من الصاغ عبدالمنعم عبدالرؤوف الحفاظ على علاقته بالإخوان، وغيرهما من أعضاء التنظيم، ولكنه اشترط عليهم عدم انضمام أى منهم حتى ولو بشكل غير رسمى لهذه التنظيمات، وذلك يفسر استبعاد عبدالمنعم عبدالرؤوف السريع من التنظيم عندما وجد فيه انتماء خالصا لتنظيم الإخوان المسلمين.
ولا يوجد مرجع تاريخى واحد ولا مذكرات أى ممن عايشوا هذه الفترة غير مراجع الإخوان ومؤرخيهم عن ذلك الانتساب المزعوم لجمال عبدالناصر للإخوان ولا غيرهم، فكيف لمبدع فى حجم وحيد حامد أن ينزلق ذلك المنزلق، متأثرا بأستاذ تاريخ، إخوانى الهوى، ناقم على ثورة يوليو، ويكره جمال عبدالناصر كراهة التحريم؟!
كيف لك يا أستاذ وحيد أن تُسبغ على هذه الجماعة الإرهابية الضالّة هذا الشرف وهذا المجد أو تنسب أى فضل لهم فى نجاح ثورة يوليو؟! إن ما فشل فيه الإخوان طوال سبعين عاما من إقناع الناس بأنهم الأصحاب الحقيقيون لثورة يوليو وأن جمال عبدالناصر قد سرقها منهم قد نجح فيه الأستاذ وحيد بامتياز، باعتباره من أكبر أعداء الجماعة، وعندما يشهد هذه الشهادة يصبح الأمر وكأنه «شهد شاهد من أهلها»!
ومما أحزننى ذلك المشهد العبثى الذى يجلس فيه جمال عبدالناصر- أتسمعون؟! أقول جمال عبدالناصر- أمام سيد قطب، تلميذا مطيعا يهابه ويسمع تنظيراته بانبهار ويستسمحه- نعم يستسمحه- أن يأتى له فى المقابلة القادمة بأعضاء التنظيم كى يستمعوا إلى الدرر الصادرة من فم الأستاذ والنصح والتنظير الصادرين من عقل المعلم، وبالفعل يأتون!
ويكون صديقى المخرج شريف البندارى أميناً للنص المكتوب- بالمناسبة بهذا المسلسل قد كسب الفن المصرى مبدعا كبيرا سيكون له اسم كبير فى غضون سنوات قليلة- ويجعل تكوين المشهد بالفعل ينمّ عن الأستاذية والزعامة لهذا السيد قطب، فيلتفون حوله وهو يجلس فى صدارة الكادر ليؤكد المعنى المقتنع به المؤلف!
ولم يسأل أحد من صانعى المسلسل: مَن يكون سيد قطب فى هذه الفترة كى تكون له كل هذه المكانة؟! وللذين لا يعلمون: سيد قطب فى هذه الفترة لم يكن أكثر من ناقد أدبى، صحيح كان نابها وموهوبا، ولكنه لم يقترب بعد من السياسة ولا العمل الجماهيرى، وكل تنظيراته كانت محصورة فى هذا المجال.
بل لم يسأل أحد نفسه: كيف لتنظيم سرى داخل الجيش لم يُطْلِع الرجل- الذى اختاروه فيما بعد (اللواء محمد نجيب) لتصديره للجماهير على اعتبار أنه قائد الثورة أو الحركة فى حينها- ولم يستأمنه على أسرارهم أو خططهم أو عددهم أو أسمائهم، ويحرص على عدم انكشاف أمره، بل حرص قائده جمال عبدالناصر على ألا يعرف أعضاء التنظيم بعضهم البعض، فلم يكن أى عضو يعرف أكثر من خليته المكونة من خمسة أعضاء، ولم يكن يعرف أسماء كافة أعضائه غير جمال عبدالناصر فقط.. كيف لتنظيم كذلك أن يأمن لشخص (سيد قطب) مهما كان ويُطْلِعه على خططه ومجلس قيادته بهذه السهولة؟!
إن كان الإخوان قد شاركوا فى ثورة يوليو أو أصحاب فضل عليها، وهم مَن صنعوا ثورة 25 يناير، كما يصر دائما الأستاذ وحيد، يصبح من غير المعقول أن نحاربهم الآن (دى البلد تبقى بتاعتهم)، ولم يكن لنا حق أن نثور عليهم فى 30 يونيو!
وأجواء المسلسل كلها تعبر دون أن تقصد عن ذلك عندما تُضخِّم فى إمكانياتهم وتأثيرهم فى ذلك الزمان، وتصور الأمر كله على أن المجتمع كله- بدءا من الملك مرورا برؤساء الوزارات انتهاء بالجيش وضباطه الأحرار- لا يتحرك حركة إلا آخذا فى الاعتبار موقف الإخوان، وكأنه لا شىء ينجح إلا وراءه الإخوان ولا شىء يفشل إلا وراءه الإخوان، بل يعود لهم الفضل فى حصول الوفد على الأغلبية البرلمانية وتشكيله للحكومة، مع أنهم لم ينجحوا فى الحصول على مقعد واحد فى ذات الانتخابات!
لقد سمَّيت ما يعتقده الأستاذ وحيد حامد «خطيئة»- وهو بالطبع حر فى معتقداته- ولكن وجب أن ننبه أن هذا الاعتقاد يضرب فى شرعية كل الأنظمة وكل الرؤساء الذين حكموا مصر بدءا بجمال عبدالناصر ومرورا بالسادات ومبارك والمجلس العسكرى حتى السيسى.. والوحيد الذى يصبح غير مطعون فى شرعيته هو رئيسهم المعزول محمد مرسى، لأنه جاء من التنظيم، الذى أجلى الإنجليز عن مصر وأسقط المَلَكية وأعاد مصر للمصريين فى ثورتهم الأولى فى يوليو 52 وأزاح فساد واستبداد مبارك ونظامه فى ثورتهم الثانية فى يناير 2011.. ويصبح من المحتم أن يكون الشعب المصرى فى معظمه من تنظيم الإخوان أو أن هذا الشعب كومبارس أو مُشاهِد، ودائما ما يترك بطله، وهو تنظيم الإخوان، يثور بدلا منه فى كل المرات، ويجلس ليصفق له إما فى الكواليس أو فى مقاعد الجماهير!
ملحوظة أخيرة: بالتأكيد ما كنت سأكتب هذا المقال لو قال الأستاذ وحيد حامد إن هذه رؤيته الفنية، ولكنى سمحت لنفسى بأن أكتب لأنه قال إن ما يحكيه فى المسلسل هو التاريخ الحقيقى، فأنا أناقش كلامه لا عمله الدرامى.. لأن الدراما لا تناقَش إلا بالمنهج العلمى للنقد الفنى وليس بمنهج علم التاريخ.