وفاء السعيد
مع المشهد الأول من مسلسل هذا المساء – محاولة من أحد الشباب أن “يخترق” محل وأحد الشركاء في منزل شريكه يشاهدان معًا فيديو من تفريغ كاميرا خارجية تراقب المحل، ثم نكتشف شكه في أن السارق أرسلته بنت تحاول أن تأخذ فيديوهات خاصة بها – في ظل حالة من “الاختراق” المهيمن على العمل نجد أنفسنا أمام حالة من التشويق داخل بناء سردي محكم يقدم لنا شخوصه بتؤدة وبمهارة فائقة مثل جبل الثلج الذي يبطن أكثر مما يظهر وشيئًا فشيئًا نعلم أكثر وتتكشف أمامنا حقائق أكثر، لحظات متفرقة من الكشف والتنوير معلومٌ بدقة توقيت إعلانها ككروت لعبة ورق يمسك السيناريست محمد فريد وفريق ورشة الكتابة بتلابيبها جيدًا، واللعبة تلك التي يمارسها معنا المسلسل لا نضبطها أبدًا متلبسة بتهمة الترهل، أو الاستطراد بلا معنى، بل أهم ما يميز هذا العمل هو إيقاعه المشدود المنضبط، ويعود الفضل في ذلك للمونتير وائل فرج الذي قدم لنا فضلًا عن ذلك، قطعًا سلسًا كأننا نشاهد بملمس الحرير دون خشونة في الانتقال بين العوالم المختلفة ،وفضاءات المسلسل الاجتماعية رغم تباينها واختلافها، فمن أتوبيس double decker أحد المعالم المميزة للعاصمة الإنجليزية لندن يحمل أكرم وأسرته الثرية في جولة ترفيهية على أنغام أغنية imagine ل جون لينون ، ننتقل لأول ظهور لشخصية تقى (الوجه الجديد المبشر أسماء أبو اليزيد) الفتاة المغتربة المحشورة في ميكروباص متهالك تتعرض فيه لكل أشكال الانتهاك لآدميتها والتحرش بها من مجهولين، دون أن نشعر بأي إجهاد بصري لهذه الانتقالات الدائمة بين عالمي الطبقتين المقدمتين في المسلسل التي نفذها بسلاسة، كما أن الفضل يعود أيضًا للمخرج المتميز تامر محسن الذي قدم براهين ودلائل امتيازه وأوراق اعتماده لدى المشاهد فبات اسمه صكًا يضمن لنا المتعة والجدية في الطرح.
نحن إزاء مقدمة كان أساتذتنا في اللغة العربية يقولون عنها بلاغيًا “براعة استهلال”، فالدراما ليست متمحورة حول شخصية بطل واحد فرد كل مسارات الشخوص الثانوية تصب في خدمة قصته، بل نحن إزاء دراما سيكون بطلهيا هذا المحل نفسه والهاتف المحمول، هما محور رئيسي في الأحداث بل ومحرك لها. محل لبيع وصيانة الهواتف المحمولة ولوازمها وبيع كروت الشحن وخلافه، كنوع جديد من النشاط التجاري الذي دخل حياتنا وبات ضرورة أساسية كالهاتف المحمول نفسه نجد محل أو أكثر في نفس الشارع أو المنطقة ، وكثير منا ما يلجأ لها عندما يقع في مشكلة تقنية يستعصي عليه حلها ، لأن أغلبنا حديث العهد بالتعامل مع مثل تلك الأجهزة، ونلاحظ انتشارها كنار في هشيم جافة بين المجتمع بمختلف طبقاته وفئاته، كبار السن وغير المتعلمين وقاطني الأحياء الشعبية، فكل شرائح المجتمع باتت تتعامل مع هذه الأجهزة رغم ارتفاع أسعارها، ورغم ضيق حالهم! ، و من هنا ظهرت أجهزة صينية غير أصلية وقد يدخر أحدهم من قوته الضروري تلبيةً لحاجته الاستهلاكية في أن يملك “تليفون تاتش” وأن يحمّل برامج “الفيس” و “الواتس” وتحميل تطبيقات التواصل المجانية التي لا تحتاج سوى باقة انترنت ،وباتت تلك الكلمات دارجة في حياتنا اليومية مبتورة غير مكتملة كاختصار لها، وكما اختصرناها قامت هي الأخرى باختزالنا واختزال حياتنا الاجتماعية والعاطفية والأسرية وكل أشكال العلاقات الإنسانية لتتحكم في أكثر من 70% من مشكلاتها وأزماتها، فمن منا لم يتعرض لمشكلة في علاقة حب أو صداقة بسبب أن الطرف الثاني ظهر لدينا أنه قرأ رسالة أرسلت إليه عبر – “الواتس” بدون آب – مثلًا ولم يرد في حينها، أو استخدم وسائل التواصل تلك للتعارف،و لنشأة العلاقات حتى أن زيجات تمت وكان “الفيس” سببًا فيها. أفراد الأسرة الواحدة داخل المنزل الواحد أصبحوا يتواصلون ببعضهم البعض عن طريق الهاتف المحمول بدلًا من التواصل الحميمي الإنساني بين البشر الذي يخلق بينهم التفاصيل والذكريات.ومع انتشار قضايا الخيانات الزوجية والكاميرا الخفية التي لم تعد ترصد مواقف مضحة بل تخبئ لتفضح علاقة فتيات بأحبائهن ، وفيديوهات “العناتيل” التي ملأت السمع والبصر مؤخرًا، من هنا كانت طزاجة هذا الموضوع دراميًا، فلم تطرق الدراما من قبل لقضية حضور التكنولوجيا وأجهزة المحمول والآي باد في حياتنا وهيمنتها علينا وسيطرتها المجنونة على تفاصيل الحياة السرية الخاصة لكل فرد منا، ولم ترصد الدراما من قبل شاشة الهاتف المحمول كبطل، فربما هذا ما منح هذا العمل اختلافه وتميزه عن السائد والمعتاد.
شاشة المحمول وشاشة السينما
عنوان المسلسل يصلح كمدخل لفهم هذه العلاقة الإشكالية بين الفرد وهاتفه وعلاقاته مع الآخرين في مجتمع مأزوم في أخلاقياته ، يمر بظرف تاريخي استثنائي عقب موجات ثورية لم تزلزل النظام السياسي وحده، ولكن المجتمع المصري كله كان يمر بتحولات جذرية قبل وأثناء وبعد الثورة. فعندما يصبح التصنت،و فضح المكالمات الهاتفية السرية بين نشطاء سياسيين مادة برنامج إعلامي، يصبح الفضح شيمة مجتمع، أصبحت فكرة الخصوصية فيه في أزمة. “هذا المساء” .. هي لافتة كانت توضع على دور السينما للإعلان عن عرض الحفلة المسائية، وكل ليلة يكون هناك عرض مختلف. شخصية “سمير” التي يؤديها الممثل الموهوب (أحمد داوود) بهدوء وثقل الكبار، هو صلة الوصل بين كل خيوط تلك الدراما المحكمة النسج، فالمحل يعود نصفه لأبيه ونصفه الآخر لصديقه “سوني” (محمد فرّاج)، سمير في فترة من حياته لا نشاهدها لكننا نتخيلها، كان نسخة من سوني الحالي، هو مَنْ نقب ثقبًا في الجدار الفاصل بين المحل ودار سينما مهجورة ملاصقة له، كأنه كان يفتح ثقبًا يتدفق منه الشر ولن يستطيع إغلاقه، كما أنه يفتح ثقبًا في حياة البشر الخاصة، ويأخذها من حيزها الخاص لمجال أكثر عمومية (غالبًا صوّرت المشاهد فيها في دار سينما مهجورة حقيقية في بني سويف)، المقاعد خاوية ومتهالكة وتملأها الأتربة ويعشش في أركانها خيوط العنكبوت، لكن أصبح لها رودًا جدد يتناسبون تمامًا مع خرابها، ربما يتماثلون معها لأن نفوسهم خَرِبة مثلها، أو ربما هم خفافيش يعيشون على هذا الخواء والظلام.أقام سمير وكرًا في حجرة أجهزة العرض السينمائي القديمة، أنشأ فيه جحرًا يليق بـ”هاكر” محترف أي شخص “يخترق” أجهزة التليفون المحمولة للزبائن راغبي تصليحها، ويتنقل داخلها بحرية فيأخذ نسخًا من الصور والتسجيلات الصوتية للمكالمات وكل شيء .. كل شيء حرفيًا.. ما لا يريد أصحاب هذه الهواتف أن يعرفه غريب.
رسم شخصية سمير كان محكمًا لأنه يبدو شخص مسالم ، طيب ، خدوم، هاديء الطباع ولا يصدر منه أي شيء مشين، يبدو رجلًا فاضلًا عندما يذهب لصديقه وشريكه سوني بعد أن تعرض للضرب بسكين تأديبًا له على ابتزاز أحد الفتيات، ليطلب منه أن يضع يده على المصحف ليقسم أنه لن يعود لاختراق أجهزة الزبائن وابتزاز الفتيات اللائي على علاقات خاصة بآخرين ويهدد بفضحهم أمام عائلاتهم ويطلب منهم أن يتقاسم أجسادهن مع الحبيب صاحب التسجيلات أو الفيديوهات التي يقوم بتخزينها لديه على أجهزة هارد ديسك، وما يجعل من هذا التناظر بين فكرة الفضح أو الكشف للحياة الخاصة وتعميمها حتى أصبح يراها جمهور من المتفرجين كما في دار العرض السينمائي أن أجهزة الهارد ديسك تلك يخزنها سوني في ماكينات عرض الأشرطة السينمائية المتهالكة، فحياة الناس الخاصة أصبحت مادة متاحة للعرض وأن يتقاسمها أكثر من شخص. غير أننا نكتشف أن سمير نفسه مازال متورطًا في اختراق هاتف “نايلة” (أروى جودة) زوجة صاحب العمل “أكرم” (إياد نصَار)،الذي يعمل سائقًا لديه، ويتجسس على كل ما يخصها ويحتفظ بصور لها، وأن له سوابق في هذه الجريمة الشنعاء ولم يتب عنها كما استتاب صديقه، وأن في حياته ماضي يؤرقه عندما تجسس في الماضي على زوجة صديقه “حامد” (الممثل المبدع أشرف مهدي) وكشف أمامه خيانتها متخفيًا دون أن يعلن عن نفسه، فتسبب في قتلها وسجن الصديق وأخذ طفلتيهما ليربيها وأصبح هو الأب في نظرها.
ومن ثم تصلح دار السينما أن تكون المدخل والدلالة لفهم وبناء رؤية عن العمل، كما أن “المساء” كتيمة عمد إليها المخرج، في أكثر من حلقة بمشاهد متتابعة متقطعة لمدينة القاهرة ليلًا بتفاصيلها المختلفة لقطات لتوكتوك ، وعداد تاكسي، ولنهر النيل الرائق أو كما يبدو أنه كذلك، تلك المدينة التي تبدو هادئة وجميلة والحياة فيها اعتيادية، غير أنها تموج بالغليان كأنها على فوهة بركان محموم، ويحتدم فيها الصراع بين أهلها، وفي المساء تبدأ الخفافيش عروضها المسائية كأنها تخترق حياة مدينة بأكملها وتفضحها، كما أن المساء والليل ستّار كما نقول في مصر، لكن لم يعد لهذا “الستر” مكانًا بيننا.
علاقات مريضة في مجتمع مأزوم
أكرم المصاب في حياته الزوجية بداء الملل الزوجي والذي تظهره لنا الإضاءة ببراعة عندما تسجنه مع نايلة في كادرات ذات إضاءة رمادية أو زرقاء بلون الجليد يشبه الإظلام، دلالة على العلاقة المتجمدة بينهما، ويخزله جسده أمامها، فيقيما علاقة آلية خالية من النشوة، فتلاشت الرغبة المحمومة في جسد الزوجة رغم كل الحب الظاهر بينهما والعلاقة التي تبدو للآخرين مثالية ولا تشوبها شائبة، إلا أن الطبيب الإنجليزي نصح أكرم بأن يجرب أجساد نساء أخريات ربما مشكلته الجنسية يجد لها حلًا عندهن، غير أنه بدا مثاليًا بإصراره على عدم الخيانة،بعكس أصدقائه متعددي العلاقات. تشعر نايلة بهذا التغير وفي كادر جميل مضاء بلون أزرق جليدي يصورهما وهي تسأله إذا ما كانت امرأة أخرى في حياته، تظهر ردود فعله في المرآة ثم تتحرك الكاميرا لتصور نايلة بمفردها تمهيدًا لتلاشيه من حياتها عندما تقرر أن يأخذا break أو استراحة زوجية من بعضهما، فإما اشتاقا فعادا أقوى مما كانا، أو انفصلا تمامًا. فيمتزج أكرم أكثر بالعالم الشعبي لسمير السائق الذي تظهره لنا الإضاءة أيضًا دائمًا مفعم بالألوان والحياة، وفي حوار له مع سمير يقول الأخير جملة تظهر جانبًا من شخصيته وتبرر أفعاله، كما تبرر أفعالنا جميعًا، وهي “الناس دايمًا بتعوز اللي مش في إيديها”، تلصصه على زوجة أكرم وافتتانه بها ومن قبل زوجة صديقه، وحياة أخريات انتهك خصوصياتهن ربما من قبل تعكس تلك الرغبة في أننا جميعًا مصابون بداء الرغبة في ما لا نملكه.
فسمير السائق يعجب بسيدة راقية كنايلة، بينما أكرم تعجبه “عبلة” (حنان مطاوع) المشخصاتية ذات العيار الثقيل التي تؤديها ببساطة السهل الممتنع، ابنة البلد، مائلة البخت، التي تتعرض لصنوف الإهانة والمعاناة مع طليقها فتتوق نفسها لرجل “بيطبطب” – على حد تعبيرها – مثل أكرم، وتقدم له الحنان على طريقة شخصية “روقة” في فيلم العار، يرى عبلة كسيدة بسيطة يطل عليهامن الخارج عبر نافذة زجاجية تفصل بينهما بنظرة سائح متفرج ، بين آنية مطعمها تطهو ويلفها البخار المتصاعد بهالة سحرية، تجعله مبهورًا بنموذج لسيدة لم يعتد على أن يقابلها في حياته الخالية من البساطة، فيتعلق بها. وعندما ينبهها سمير “من امتى بناخد اللي مش لينا يا بنت خالتي؟” تؤدي حنان مشهدًا بارعًا في شرح دوافعها لقبول زواج مهدد بسعادة مؤقتة لكنها تقبل المخاطرة لأنها لم تكن تحلم بأن تعيش السعادة ولو ليومين، تأكيد على هذه الرغبة والتطلع فيما ليس لدينا والذي لم تسعَ إليه بل هو الذي طرق بابها وقال لها تزوجيني، وفي كادر جميل أيضًا للمخرج عندما يذهب أكرم لعبلة في السيدة نفيسة يفصل بينهما بحاجز خشبي داخل مقام السيدة للتعبير عن ذلك الحاجز الطبقي بينهما حتى بعد خروجهما من المسجد والانتقال للمقابر التي تجمع والدي عبلة وتقص عليه حكاية الزيجة التقليدية في الطبقة الشعبية التي تعيش فيها الزوجة طيلة حياتها خادمة تحت قدمي زوجها وهو في المقابل لا يستطيع الاستغناء عنها وهو ينظر إليها بعينين مفتونتين لتلك الحياة التي يرغبها، حياة تلقائية لا يقيس فيها خطواته لا يحسب حساب لكلماته قبل أن ينطقها، حياة مريحة ، لكن عندما يسيران جنبًا إلى جنب يحافظ المخرج على مسافة بينهما ويسيرا في طريق الكاميرا في خطين متوازيين كأنهما مهما فعلا لن يلتقيا.
علاقات عاطفية معطوبة
المسلسل مليء بكثير من العلاقات المعطوبة، كما أننا نستطيع اعتبار العلاقة بين الرجل والمرأة موضوع أساسي بجانب اختراق الحياة الخاصة، إن لم يكن يبحث في تأثير هذا الاختراق التكنولوجي لحيواتنا الخاصة واختبار هذا التأثير على العلاقة بين الرجل والمرأة فماذا صنعت بنا التكنولوجيا؟.. سهّلت الخيانة الزوجية من الطرفين، وفتحت الباب للرغبة وإشباعها السهل، في ظل ظروف اقتصادية قاسية وصعوبة الزواج، فأن تملك كاميرا، وباقة انترنت، كأنك امتلكت مفتاح لباب لا ندري بعدما تفتحه وتلج فيه سيقودك إلى جنة الشهوة أم إلى جحيم الإثم؟! .. العلاقة الزوجية المعتلة بين هند أخت أكرم وزوجها مثلًا، بعد مرور عدد من السنوات على علاقة زواج تجف المشاعر حد التيبس، ولا ينتظر أي طرف من الآخر كلمة حب أو سلوك مختلف عما اعتاده منه، وهنا تتدخل التكنولوجيا، فتقلص المسافات بين البشر، وتسهيل الاتصال كما أن له مزايا عديدة، عيوبه أن وصلت إحدى قريبات زوجته إليه لتغازله ويستجيب “ماجد” لهذا الإغراء لصوت الفتاة الشابة التي تداعب مشاعر تكلست في قلب رجل كهول أصابه تصلب شرايين عاطفي، كما أن انخراطه في هذه العلاقة وإهماله لزوجته يجعلها تسعد لمحاولات زميل دراستها القديم أن يستعيد علاقته بها ويخبرها حديثًا حلوًا عن جمالها الذي لم يتغير، فتبدو لنا أن قلبها يتراقص طربًا لعبارات كان تنتظرها من زوجها ولم يفعل، وفي مشهد يعبر عن هذه الحالة التي قد نجدها في بيوت كثيرة الآن كل من الزوجين يتلقى رسائل من الأشخاص الغائبين الحاضرين بينهما ويمارسان سلطة ما على حياتيهما،وكل منهما يخفي عن الآخر سره، وكل ذلك بفضل الهاتف المحمول الذي أدخل شخوصًا آخرين ، وكأن المشهد يحتوي على أربعة أشخاص لا شخصين! ، وكأن الهاتف في يد كل منهما يحمل بداخله شخص آخر حاضر ومؤثر، وتأثيره في غيابه الفيزيقي وحضوره الافتراضي، لأن أغلب ما يريده أي الزوجين من هذه العلاقات الافتراضية هي بالضبط هذا الدور الافتراضي الذي تؤديه، ضخها دمًا جديدًا في شرايين حياة تيبست بينما الحياة الأصلية باقية على حالها لا يريدون إفسادها أو إنهائها بأي حال، تلعب دور المسكنات لتخفف الشعور بالألم أن تدلس على الوعي فتخفي الشعور بالألم لكنها لا تخفي الألم نفسه!.
نرشح لك: تعليق إياد نصار على شخصية “أكرم” في “هذا المساء”
أما العلاقات العاطفية العليلة بين الشباب والفتيات، هي خط آخر، فالثقة باتت منعدمة،تقى أحبت أيمن وأسلمت له جسدها فما كان جزاءها منه سوى أنه يخبئ لها كاميرا تصور لقائهما الغرامي، وتسببت في مشكلتها المستقبلية مع “هاكر” آخر يفعل مثلما يفعل سمير وسوني اخترق الفيديو ويبتزها لتقيم معه علاقة جنسية. ورغم الإعجاب المتبادل الصامت بين سمير وتقى إلا أنه لن يغفر لها أبدًا فعلتها، كما يبدو بعدما شاهد الفيديو أيضًا بعينيه في مشهد أداه داوود ببراعة وهو يذرف دموعًا أثناء مشاهدته لجريمة تقى الوحيدة “أن أحبت” !!!. كما أن الأخ الأصغر لأكرم على علاقة بفتاة يعيش معها دون زواج، ويتردد كثيرًا في طلبها للزواج، ولا يستطيع التخلص من قبضة الأعراف والتقاليد التي تمنعه أن يربط اسمه باسم فتاة كانت على علاقة غير شرعية به، ويسلم آذانه لحديث أخته “عندما تتزوج تخيّر أمًا جيدة لأولادك” ، وغالبًا ما ستعجب أخته ب”سارة” فنانة المكياج التي كانت على علاقة سابقة غير شرعية أيضًا بمذيع شهير والتقت بها في دروس دينية لأحد الدعاة الجدد، وستقدمها له ليتزوجها وهي لا تعرف شيئًا عن علاقتها السابقة !
نرشح لك: 11 معلومة عن أسماء أبو اليزيد.. ضحية هاكر “هذا المساء”
فمظهر الفتاة متدين، ونحن مجتمع يقدس المظاهر – وهذا تخمين مني لأن المسلسل مازال في الحلقة العشرين لم ينتهِ بعد – ، فالمجتمع مازال يمارس سلطة كبيرة ولا يتسامح مع نمط هذا العلاقات خصوصًا مع البنت في أي طبقة. فالتورط في مشكلات من قبيل التهديد والابتزاز، سببها امتهان الرجل للبنت التي تحب وتسلم جسدها في علاقة غير شرعية خارج الإطار الاجتماعي المتعارف عليه، والنظرة الدونية لها، فيستبيح شريكها في العلاقة لنفسه أن يصورها معه ، ولا يهمه كثيرًا أن يُفتضَح أمرها، هي تستحق كل ذلك وأكثر، لأنه مهما كان منتميًا لطبقة أكثر ثراءًا أو علمًا أو ثقافة، هي بالنسبة له ساقطة ولا تصلح أن تسمو وتنل الشرف الرفيع بأن تصير زوجته! ، رغم أنها لم تقم هذه العلاقة بمفردها !!! ، إلا أنها الوحيدة التي تتحمل مسئوليتها. هذا المجتمع غير المتسامح مع الفتيات الضاغط عليهن كي يتزوجن لأنه “الستر” في حياة أي أسرة أن تزوج ابنتها – لأي رجل – حتى لو لم تحبه، وأي رفض منها لشكل العلاقة التقليدية هذا يدفع أهلها – كما فعلت أم تقى في مشهد واقعي جدًا – لاتهامها بأن فيه “إنّ” تمنعها، ربما هذا الدفع للزواج خشية أشباح العنوسة وكلام الناس، يؤدي للاختيار الخاطيء يشكل في المستقبل سببًا للزوجة التي لا تجد نفسها في علاقة فرضت عليها أن تدخل في علاقات عاطفية أخرى حقيقية أوافتراضية لتشعر بالتحقق الأنثوي بعد أن سلب المجتمع منها كل حقوقها، وفي النهاية ستأخذ نعت الخائنة أيضًا. فلا فكاك من اتهام المرأة وتحميلها كل الذنب، وكأن العلاقة ليست ثنائية ومتبادلة بين طرفين.
نماذج حقيقية لبشر حقيقيين
أهم ما يميز دراما “هذا المساء” تقديمها لنماذج بشرية وإنسانية حقيقية، نزعت القداسة عن كل شخوصها ، لكنها في نفس الوقت لم تشيطنهم ، فهم في النهاية بشر ككل البشر، قد يخطئوا وكثيرًا ما يخطئوا ، وقد يصيبوا في أفعالهم، فتعاطف سوني من مشكلة تقى ومساعدته في حلها، وهو نفسه يقوم بنفس الجريمة في حق فتيات أخريات مثل تقى، فالشخصيات طبيعية وحقيقية ، ليسوا أنصاف آلهة، يجمعون بين الخير والشر. كما أن المسلسل قدّم الحارة الشعبية بلا أي زوائد مفتعلة وكليشيهات من قبيل أنها منبع الجدعنة والأصالة والقيم وتشيطن مجتمع الأغنياء وغياب القيم فيه لتدخل رأس المال اللعين في إفساد حياة طبقة الأثرياء، لكن الحارة مجتمع معطوب ويعاني من مشكلات أخلاقية أيضًا، بل مشكلاته مضاعفة لغياب الوضوح والشفافية أحيانًا ، فنساء الحارة كما أن بينهم عبلة، السيدة المكافحة الجدعة بمئة رجل كما يقال تقف في محلها بشرف، هناك أيضًا نموذج أم عبير الخائنة لزوجها والتي غالبًا ما أخذت مظهرها من نماذج حقيقية لنساء شعبيات تظهرن في فيديوهات العناتيل، لون الشعر ، والحواجب والمكياج. كذلك في الطبقة الأخرى نجد المذيع صاحب المباديء أمام الشاشة لكنه خلفها شخص قميء عصبي ونرجسي يخاف على سمعته ويقيم علاقة مع ماكيرة البرنامج في السر ويهينها ، وهنا لا دخل في العلم أو الثقافة أو الدخل، فالمذيع المرموق نظرته للمرأة تمامًا مثل نظرة سوني المتدنية لكل فتاة تعرف شابًا، أو امرأة خائنة رغم أنه يساهم في زيادة الخيانة بدعوتها لديه بعدما فضح خيانتها لزوجها مع آخر إلا أنه يوبخهن لأنهن لم تعشن في كنف أزواجهن مثل أي سيدة محترمة.
مضى “هذا المساء” في السباق الرمضاني بهدوء، ثم انطلق كحصانٍ أسود جامح يزيح مَنْ بجانبه ليتربع بمفرده في مكان الصدارة، كمسلسل يحظى باهتمام ومتابعة كبيرين، كما أن صناعه نفذوه بحرفية عالية، وبفنية جعلت من كل تفصيلة فيه تستحق الاحترام والشكر للقائمين عليها.
وكعادة الفن الجيد عندما يرصد ظاهرة ويسير خلف خيوطها محاولًا كشفها فهو يدق ناقوس خطر يحذرنا جميعًا وينبهنا لحدود العلاقة بين الخاص والعام، وأدق خصوصيات حياتنا التي أصبحت مشاعًا، وكأن كل شاشات المحمول أصبحت شاشات أضخم وأكبر ، شاشات عرض سينمائية تعرض عليها حياتنا يوميًا أمام غرباء .. تعرض كل جديد هذا المساء.