(1)
“أنت الآن طائر حبيس في قفص المعرفة، والفكر. الفلسفة هي التي ستجعلك تحلق في سماء العالم. ليس مثل الفلسفة شيئا يجعل من هذا الواقع الضيق عالما بلا حدود. في مكان ما سوف يلتقي الفكر بالعمل. سيصبح الحلم نضالا، ورغبة في التحقيق، ستصبح وحدة الإنسان مع ضميره”.
الكاتب الكبير الراحل علاء الديب (4 فبراير 1939 – 18 فبراير 2016)، له كتاب بعنوان “وقفة قبل المنحدر.. من أوراق مثقف مصري 1952-1982″، سيطر عليّ تماما، ونحن نحضّر عدد مجلة الفيلم الحالي عن صناعة السينما في مصر، ليس الكتاب في مجمله، بل عنوانه الصادم، فأردته أن يكون منطلقا للمقال الافتتاحي، وربما سيكون “مانشيت” للعدد، بعد التشاور مع هيئة التحرير.
هل السينما في مصر تحتاج إلى وقفة؟ وهل هذه الوقفة فاعلة لعدم الوقوع في المنحدر فعلا؟ وهل في هذا تجنٍ على السينما المصرية؟
ربما هذا الوصف (المنحدر) يصدم البعض، بما فيهم زملائي وأساتذتي هنا في مجلة الفيلم، أو من خارج المجلة.
لكن هل السينما المصرية في أزمة؟
نعم، الأزمة الأولى أنها لا تهتم بالفكرة، فلا تلتفت إلى الوعي ولا تهتم بالتعبير عن قضايا الناس في مصر. وحتى لا يصاب المقال بالتعميم، أؤكد أن هناك استثناءات سينمائية بديعة. لكن لا تشكل تيارا، ولا تخلق حالة سينمائية متفردة في مصر، بل هي جهد هنا، وجهد هناك. وتلك الاستثناءات هي التي يمتدحها نقاد السينما، ويركزون عليها دوما.
هنا لا أتحدث عن تلك الاسثتناءات، التي يشكلها مخرجون كبار أمثال داود عبد السيد أو خيري بشارة أو محمد خان أو علي بدرخان أو يسري نصر الله وغيرهم، أو بعض المخرجين الشباب الآن، ولا التي كانت محور أعمال مخرج كبير مثل يوسف شاهين، أو صلاح أبو سيف أو عاطف الطيب وغيرهم.
أتحدث عن سينما في مصر حدثت لها قطيعة معرفية كبرى بالسينما المصرية، التي كانت رائدة ومجددة. أتحدث عن واقع سينمائي حادث الآن يقف عند حافة المنحدر، وليس في المنحدر ذاته.
لكن أي واقع سينمائي أقصد؟!. قلت في عدد سابق إنه الواقع السينمائي الذي يهتم بتقنيات جمالية، ربما تكون مبهرة، دون الاهتمام بالفكرة، بعصب الفيلم، بالحبكة، الذي يهتم بـ”رص” النجوم في أفيش فيلم باهت، لا يقول شيئا، ولا يتذكره المشاهد فور خروجه من العرض. أقصد أيضا واقعا سينمائيا هو جزء من مجتمع أكله السوس، في كل جوانبه، عبر زمان ممتد من التجريف المعرفي. واقع سينمائي محكوم بفكر غير مستنير، بتعليم رجعي، بسلطة وقمع دينيين ودنيويين، برقابة ذاتية وإدارية، بفكر دولة لا تهتم بالثقافة والفن، باقتصاد تجاري نفعي لا يؤمن بمسئوليته الاجتماعية، بمثقفين لا يعرفون دورهم (غير مستقلين.. يميلون دوما للسلطة)، بمناخ ومجال عام لا يشجع على الإبداع إلا فيما ندر.
(2)
في عام 2007 صدر كتالوج من مدرسة السينما بالجزويت، يركز في نقاط محددة عن أزمة السينما وصناعتها ورؤية الجزويت لهذه الصناعة ولسوق السينما المصرية، تحت عنوان “خطاب سينمائي مغاير”، كتبه المخرج كريم حنفي، وسبقه تقديم للباحث يوسف رامز في الإطار نفسه، يقول الكتالوج:”..الواقع الذي تنحصر فيه فرصة تعلم السينما والعمل بها على الفئات القوية فقط من المجتمع التي تملك الثروة- القدرة المالية- والنفوذ وشبكة العلاقات والمصالح، مما يسمح لأبناء هذه الفئات بدخول مجال صناعة السينما. في ظل هذا الوضع أصبح تعلم فن السينما والعمل بها أمرا محصورا على من يمكنهم أن يدفعوا الثمن، بمعنى أنه في ظل هذا الوضع غير المنطقي تصبح الفئات التي تمثل أغلبية المجتمع (الفقراء ومتوسطو الحال) محرومة من فرصة تعلم فن السينما وصناعة الأفلام، وبالتالي محرومة من الحق في التعبير عبر هذا الوسيط. هذا الاستبعاد لفئات المجتمع الأكثر احتياجا من مجال صناعة الإفلام نتج عنه غياب صوت هذه الفئات في الخطاب السينمائي المصري، وبالتالي في أغلب الأفلام التي تنتجها السينما المصرية في السنوات الأخيرة، سواء عن عمد أو دون تعمد. وفي ظل سيطرة رؤوس الأموال الهادفة فقط للربح على شئون صناعة السينما المصرية، وفي ظل سوق إنتاج يطرح الفيلم السينمائي باعتباره سلعة تجارية هادفة للربح ومتداولة فقط لمن يملكون الثمن، في وطن أغلبه من الفقراء يتم حرمان هذه الفئات العريضة من حق مشاهدة الأفلام في دور العرض السينمائي نظرا لارتفاع سعر تذكرة السينما، وتركز دور العرض في المدن الكبرى فقط، وغيابها عن أغلب المدن والقرى المصرية. وبالتالي أصبحت هذه الفئات التي تشكل أغلبية المجتمع من الفقراء ومتوسطي الحال لا تستطيع إنتاج أفلام أو استهلاكها، ما أدى إلى تردى الذوق السينمائي العام، وغياب الثقافة السينمائية، نتيجة تصور الفيلم السينمائي ليس باعتباره عملا فنيا، وإنما باعتباره سلعة تجارية ربحية، ونوع من التسلية والترفيه”. ويختم كريم حنفي كتالوج مدرسة السينما بالجزويت قائلا:”فن السينما كان وسيبقى دوما فن صناعة الإفلام، ولهذا فأنا لا أعتقد أن صناع الأفلام بحاجة لمفكر كبير يفكر عنهم مسبقا، ليعلمهم كيف يعبرون عن أنفسهم بطريقة أفضل. ولا أعتقد أنهم بحاجة إلى أستاذ أكاديمي لا يصنع أفلاما، ليخبرهم كيف يجب عليهم صناعة أفلامهم وفقا لقواعد صماء. هذه الخرافة الأكاديمية في رأيي تعطل صناع الأفلام”.
فضلا عن الكتالوج، ورؤية الجزويت لتشكيل الوجدان الإنساني عبر ثقافة الصورة، صدرت مجلة الفيلم، عن نادي سينما الجزويت “جمعية النهضة العلمية والثقافية”، كمشروع حالم لتشكيل الوعي السينمائي؛ لأن نوادي السينما هي التي تخلق جماهير عريضة محبة للسينما، كأنها تمشي على الجمر، متحدية تجريف الواقع الثقافي والسينمائي، الذي تم ويتم لصالح الجهل والقمع والرقابة.
يغلف كل ذلك “الكتالوج والمجلة ونادي السينما” تواجد جمعية النهضة العلمية والثقافية “جزويت القاهرة” على أرض ستوديو ناصيبيان الذي يعد من أبرز الأستوديوهات، التى عملت فى ميدان صناعة السينما المصرية (صالة تسجيل ومعمل وطبع وتحميض بخلاف غرف الممثلين والماكياج والمونتاج)، والذي تأسس عام 1935 على يد المصور الفوتوغرافى الأرمني “هرانت ناصيبيان”، وتم تأسيسه – حسب موضوع الزميل محمد حافظ الذي ننشره ضمن ملف صناعة السينما- بعد ستوديو مصر بعام واحد، وبالتالى فهو من أقدم وأهم وأعرق الأستوديوهات السينمائية ليس فى مصر فقط، وإنما فى المنطقة العربية كلها؛ لأن ستوديو الأهرام تم تأسيسه بعد نصيبيان بنحو 9 سنوات، وكذلك ستوديو جلال تم تأسيسه بعد ناصيبيان بأحد عشر عاما. من هذا الأستوديو خرجت أفلام هي علامة في تاريخ السينما المصرية إلا أنه توقف عن الإنتاج.
(3)
في هذا العدد عن صناعة السينما في مصر، ننشر لقارئ مجلة “الفيلم” موضوعات، بلغة الصحافة هي انفرادات، وبلغة البحث هي “تصحيح تاريخي”، منها أن أول فيلم عربي ناطق هو “أنشودة الفؤاد”، وليس فيلم “أولاد الذوات”، كما جاء في حوار صديقي الكاتب المتميز حسن شعراوي مع بازيل بهنا، حيث سبق فيلم “أنشودة الفؤاد” بأسبوع فيلم “أولاد الذوات”، الذي يعتبره البعض خطأ أنه أول فيلم ناطق في مصر. حوارنا مع بازيل بهنا، آخر أبناء مؤسسي شركة بهنا فيلم، يوضح كيف كانت صناعة السينما المصرية ناهضة، وإلى أين وصلت، وما سيناريوهات مستقبلها؟
في هذا الحوار المهم يؤكد بازيل أن شركة بهنا نفذت أول فيلم رسوم متحركة، قائلا:”حينما قابلت أختي فرنكل مخرج الفيلم في باريس من عدة سنوات، رحب بها وأخبرها بأن والدى ساعده كثيراً في تنفيذ فيلمه “مشمش أفندي” كأول فيلم مصري للرسوم المتحركة، الذي كان مكلفا في الوقت والجهد؛ لأنه كان مؤمنا بصناعة مصرية ردا على شخصية “ميكي ماوس”، ورسوم “والت ديزني” الأمريكية. وعرض الفيلم لأول مرة في 8 فبراير 1936 في قاعة سينما كوزموجراف بالقاهرة، المعروفة حاليا بإسم سينما كوزموس بوسط البلد.
كما تستقبل المجلة مشاركة جديدة ومهمة للناقد وأستاذ السينما د. مالك خوري بعنوان:”الملحمة التاريخية الكلاسيكية كإطار معاد للاستعمار! التجربة الشاهينية في الاشتباك الحبي مع هوليوود في الناصر صلاح الدين”، فضلا عن مقال الزميلة بسنت الخطيب سكرتيرة التحرير عن الرقابة والأفلام المصرية، وكيف لا تتنفس الحرية للانطلاق. موضوعات الملف “صناعة السينما في مصر” كثيرة ومتنوعة، تقدمها الكاتبة صفاء الليثي مستشارة التحرير.
(4)
صناعة السينما ليس فقط شركات الإنتاج الكبرى وموزعي الأفلام ودور العرض أو التقنيات عالية الجودة، وليس الرقابة والقوانين أودعم الدولة، بل هي تعلم السينما (ليس عبر الثرثرة الأكاديمية) وإتاحتها للكل، وتشكيل وعي ورؤية القائمين عليها.
الصناعة نتاج مجتمع ناهض حر فاعل ثقافيا وفكريا واقتصاديا، أو خامل يعيش طوال الوقت كمستهلك وتابع. الصناعة ليست فيلما ممتازا هنا أو فيلما مشوها هناك.
لا يهم هنا (صناعة ومال) السينما في مصر، بقدر الاهتمام بالسينما ذاتها، كفن ووعي وثقافة للتعبيرعن الذات وعن المجتمع، وللتغيير الذي سيطول.