لم يلتفت إليه الكثيرون فى البداية، وهو أمر طبيعى لعمل يفتقد لأبسط عوامل الجذب الجماهيرى، فلا يوجد نجم كبير، أو دعاية مبالغ بها، ولم يتعمد صناعه خلق حالة تشويق وإثارة فى حلقته الأولى، كنوع من ” جر رجل ” المشاهد للمتابعة كما تفعل الكثير من المسلسلات حتى ولو على حساب جودة العمل نفسه.
وبهدوء الواثقين جاءت خطواته ثابتة وإلى الأمام، حتى انتصف رمضان وأصبح ” هذا المساء ” يشكل حالة خاصة، ويلقى الكثير من الإشادات، مما جعله يكتسب كل يوم مشاهدين جددًا، حتى تمكن مع نهاية السباق من فرض نفسه، وصنع الحدث، فاستحوذ على القمة منفردًا، كأفضل عمل درامى فى رمضان 2017، بل ويسبق كل ملاحقيه بمسافة ليست قصيرة.
– الجمال يكمن فى التفاصيل
يقال أن الشيطان يكمن فى التفاصيل، ويبدو أنها مقولة صحيحة تمامًا، ولكنه شيطان الإبداع، وليس أى شئ آخر، فالتفاصيل هى التى تصنع السحر، وتشكل الفارق فى النهاية، فلا يوجد فن حقيقى دون الإهتمام بأدق التفاصيل، وهذا أحد أسرار روعة ” هذا المساء ” فلم يترك المخرج تامر محسن شيئًا للصدفة، بداية من الفكرة التى احتاجت للكثير من الجهد لوضعها بداخل سيناريو متماسك، سيناريو تتحرك بداخله شخصيات حقيقية، كُتبت بصدق. شخصيات تنتمى لعالمها، وتتصرف تصرفات تشبهها، ما يجعلك كمشاهد تنجرف معها بمشاعرك، دون أن تشعر، لتعيش مشاكلها، وهمومها، تفرح لأفراحها، وتتألم لألمها. أنت تصدق كل ما يحدث أمامك، وهذه هى القاعدة الأولى التى لا غنى عنها، لبناء العلاقة الناجحة والمثالية ما بين المتفرج والعمل الفنى.
على مستوى الصورة، ستجد نفس الإهتمام بتفاصيل رسم الأماكن، لتشعر وكأنك تشاهد عالمين مختلفين تمامًا، ورغم ذلك لا يتم تقديمهم بصورة زاعقة، فالمنطقة الشعبية لا يتم ابتذالها بشخصية البلطجى المعتادة، والأغنياء ليسوا أشرارًا، أو ملائكة، فهم مجرد بشر فى النهاية.
الموسيقى التصويرية للمبدع أيمن ابو حافة، كانت إحدى الأبطال، وتم توظيفها بداخل العمل بطريقة أكثر من رائعة، وكانت خير تعبير عن الإنفعالات الداخلية التى تعصف بشخصيات المسلسل فى العديد من المشاهد. حتى الأغنيات التى تم وضعها فى بعض المشاهد، تبدو وكأن اختيارها لم يأتِ عشوائيًا، بل كان له أكثر من معنى، وكأنها تلخص حال الجميع، بطريقة غير مباشرة، فى جملة مثل ” سوف تلهو بنا الحياة وتسخر”.
الحديث عن التفاصيل الصغيرة فى ” هذا المساء ” لا ينتهى، ويحتاج إلى كثير من الكلام، وسأكتفى بالتوقف أمام أكثرها ذكاءً وصدقًا وواقعيةً، وهى وجود بعض الشخصيات بداخل المسلسل، يصنعون المواقف، ويؤثرون فى مجرى الأحداث، لأكثر من حلقة، قبل أن نراهم على الشاشة، فكان ظهورهم الأول افتراضيًا، عن طريق مكالمة هاتفية مثل ” فياض ” الذى يبتز تقى، أو دردشة فيس بوك مثل ” سارة ” التى تنشأ علاقة مع ماجد. أليس هذا هو واقع وطبيعة حياتنا الآن ؟ ألا يوجد فى حياة كل منا الكثير من الأشخاص الإفتراضيين، وتأثيرهم على حياتنا قد يسبق وجودهم الفعلى بها.
– مستر أكرم ونائلة
– إياد نصار ” أكرم ” : إذا كان الدور مكتوبًا بشكل جيد، فلا يخيب إياد نصار توقعاتك أبدًا. يجتهد دائمًا لتقديم أفضل ما لديه، يغير من جلده بما يلائم من طبيعة كل شخصية، فترى سيد العجاتى فى ” موجة حارة ” يختلف تمامًا عن طارق رمضان ” أفراح القبة ” ولا يشبه على الإطلاق لمستر أكرم ” هذا المساء “. الدور قد يبدو عاديًا فى البداية، فشخصية أكرم هادئة، كتومة، أغلب انفعالاتها داخلية، تمكن إياد نصار من تقديم أداء استثنائي، بثقة وهدوء وتمكن، وخصوصًا فى الحلقات الأخيرة، تحدث له الكثير من التحولات، وينهار عالمه فى النهاية ويخسر كل شىء.
– أروى جودة ” نائلة ” : لا أفهم حتى الآن السبب وراء الظهور المحدود، والأدوار القليلة، لهذه الفنانة الموهوبة بحق. تعايشت مع الشخصية تمامًا، طريقة الكلام، وتعبيرات الوجه، وحتى ” المشية ” الواثقة، كلها تفاصيل تخص نايلة أو ” نائلة ” زوجة أكرم، والتى تمر علاقتها بزوجها، بمرحلة فتور، فتقرر الإبتعاد قليلًا، إلى أن تكتشف زواجه من أخرى. أبدعت بشكل خاص فى النصف الثانى من المسلسل، خاصة بطريقة انتقامها من أكرم، وإيحائها له بأنها تخونه، مشهدها الأخير مع ” إياد نصار ” من أفضل ما شهدته لها على الإطلاق. أتمنى أن يكون هذا الدور نقلة حقيقية، وتعديل مسار لمسيرة أفضل، تستحقها بكل تأكيد.
– سونى وعبلة
– محمد فراج ” سونى ” : أحد أعظم مواهب هذا الجيل. لا يعانى من عقد النجومية، ولديه أولوية تقديم فن جيد، قبل أى شىء، كما وصفه تامر محسن، عندما سُئل عن سبب استعانته الدائمة بفراج فى كل أعماله حتى الآن. هو موهوب بالفطرة، يترك بصمته الخاصة فى كل مرة على شخصياته، فيجعلها تعيش فى الذاكرة طويلًا. أبدع فى دور ” سونى ” جعله من لحم ودم، وأضاف إليه الكثير. تحبه فى البداية، رغم رفضك لتصرفاته، قد تلتمس له بعض العذر، حتى يفاجؤك بالشر الكامن بداخله، لكنك لا تملك فى النهاية إلا أن تتعاطف مع مأساته، وضعفه البشرى.
– حنان مطاوع ” عبلة ” : من أكثر الفنانات تطويرًا لنفسها بصورة دائمة. العامين الأخيرين تحديدًا شهدا طفرة غير عادية فى مسيرتها الفنية، وصلت لدرجة أن تنافس نفسها، بأكثر من دور رائع فى توقيت واحد. الموهبة والنضج، والإختيارات الذكية للأدوار، يجعلان من كل دور جديد لها بمثابة إضافة كبيرة. حتى الدور الشبه تقليدى، لبنت البلد الجدعة، استطاعت أن تقدمه بمذاق مختلف، مما يجعل عبلة تشكل رقمًا صعبًا، أمام كل من ستحاول تقديمه مستقبلاً.
– تقى وفياض وتريكة
من الصعب تصديق أن هذ الثلاثى يخطون خطواتهم الأولى فى عالم التمثيل، فما رأيناه منهم يليق بالمخضرمين وأصحاب التجارب المتعددة والخبرات الطويلة، وهو أمر ينبىء بمواهب شديدة التميز، ولكنه يُحسب بالتأكيد للمخرج، صاحب الرؤية الثاقبة، والذى يمتلك جراة، وقدرة على المغامرة. أسماء ابو اليزيد ” تقى ” تعتبر مفاجاة حقيقية، إتقانها للدور مذهل، قدمت انفعالات صادقة، وتعبيرات وجه تليق بفنانة من العيار الثقيل. صاحبة طلة جميلة، وحضور دافىء، ستبقى طويلًا فى أذهاننا باسم ” تقى ” وإن كانت موهبتها تؤكد قدرتها على تقديم الأفضل.
محمد جمعة ” فياض ” تمكن بمشاهد قليلة من ترك تأثير مرعب، غول تمثيل حقيقى، يمتلك حضورًا، وثباتًا، وملامح وجه، قد تجعله أحد أيقونات أدوار الشر فى الفترة القادمة. حتى فى مكالمته مع تقى استطاع أن يلفت الانتباه بصوته فقط، وخلق حالة من الفضول لدى المشاهد فى رؤيته، وهو ما يؤكد على موهبته الغير عادية.
خالد أنور ” تريكة ” : أكثر من يشبه للواقع بين كل أبطال ” هذا المساء ” تشعر وكأنك رأيته من قبل، فهو يمتلك وجهًا بملامح مألوفة، يشبه لصديقك، أو جارك، أو من يجلس بجوارك على المقهى. سنه الصغير وملامح وجهه وملابسه البسيطة، وحتى اسمه ” تريكة ” كلها تفاصيل سهلت من تقبل المشاهد للشخصية، وخلقت بينهم حالة من الحميمية. كل هذا بالطبع لا يساوى شيئًا دون موهبة واضحة، تبرز كل هذه التفاصيل وتقدمها فى أفضل صورة، وهو ما نجح خالد أنور فى تحقيقه بشكل أكثر من رائع.
– أحمد داود .. سمير فارس هذا المساء
هو البطل الحقيقى للمسلسل، رغم وقوفه على الأفيش ثالثًا على اليسار، خلف إياد نصار، وحنان مطاوع، وأروى جودة، وبجوار محمد فراج. فشخصية سمير تحرك كل أحداث المسلسل، وطرف رئيسى فى أغلبها. هو همزة الوصل ما بين منطقته الشعبية، وما بين عالم أكرم، الذى نبدأ بعد ذلك فى التعرف على شخصياته. يصادف ” تقى ” ويتعرف عليها، ويدخلها بمشاكلها كطرف أساسى فى صراعات المسلسل.
يمتلك سر يعذبه، خاص بابنته بالتبنى ” نور ” والذى كان سببًا فى مقتل والدتها، ودخول والدها للسجن، ناهيك عن علاقته المضطربة بصديقه وشريكه فى محل الموبايلات ” سونى ” بسبب ما يفعله الأخير من مصائب يعلمها الأخير جيدًا. شخصية ثرية وتحمل كل صفات النبل، دون ” أفورة ” فلديه أيضا عيوبه وماضيه المشين. هذا عن سمير، أما أحمد داود الذى تفوق على نفسه فى هذا الدور، فقد أثبت امتلاكه لموهبة لا تقارَن. لديه ثبات، وقدرة على الإقناع، تشعر وكأنها صفات أصيلة بداخله، وغير مكتسبة. حضوره هائل، ولا يفتقد ” للكاريزما ” لا يبالغ فى انفعالاته أو ردود أفعاله، فهو فنان موهوب بحق، ونجم كبير، لا أبالغ لو قلت أنه يمتلك كل المواصفات العالمية للمثل الجيد.
– تامر محسن .. عبقرى البساطة
فى ” بدون ذكر أسماء ” نُسب النجاح لورق وحيد حامد، فى ” تحت السيطرة ” قيل لجماهيرية نيللى كريم، وطبيعة موضوع المسلسل المختلف نوعًا ما، هذه المرة كانت ” التالتة تابتة ” واستطاع تامر محسن أن يؤكد لحقيقة تجاهلها الكثيرون، وهى كونه صاحب الفضل الأول فى كل النجاحات التى حققتها أعماله الدرامية الثلاثة.
فهذه المرة كل شىء يؤكد وجود ” مايسترو ” يقف خلف كل هذا الإبداع والتوهج، طفرة كبيرة حققها للدراما المصرية، وهو لا زال يقدم فقط عمله الدرامى الثالث. فالمستوى الراقى والمعالجة الذكية لفكرة المسلسل الجديدة والمختلفة، تأتىَ من قلب الواقع، ورغم ذلك تم تقديمها بما لا يخلو من سحر الفن ولمسة الخيال، فتامر محسن هو عبقرى السهل الممتنع والبسيط، والبساطة هى أصعب أنواع العبقرية.