“البلد اسمها الدهاشنة .. المكان محدّش قال لنا” .. على طريقة وصف عبد الرحمن الأبنودي في الفيلم السينمائي الشهير “شيء من الخوف” – المقتبس عن نص روائي لأديب ثري من أسرة إقطاعية (ثروت عكاشة) خضعت أموال عائلته لقرارات فرض الحراسة – كان عكاشة يوجه في نصّه الروائي نقدًا صريحًا وواضحًا لثورة 23 يوليو، ولكي يمر الفيلم من قبضة الرقابة لجأ لحيلة التنصل من واقعية الزمان والمكان، وسرد الأحداث في مكان وزمان مجهوليْن، عقد معنا مبدعيه عقدًا ابتداءًا من أغنية التتر كأننا أمام صندوق دنيا، أننا إزاء حكاية خيالية، لا تمت للواقع – لا سمح الله بصلة – .
وضعنا صنّاع مسلسل “كفر دلهاب” في الموقف ذاته، بدءًا من العنوان الذي يشير لمكان خيالي لا وجود له، في زمان حتى لا نعلمه ولم يهتم صناع المسلسل أن يعلمونا به، هل هي قرية مملوكية مثلًا، نستطيع أن نستشف ذلك من أسماء الأبطال؟، وهل هي في مصر أصلًا؟!. لا ندري. ولكنها حدوتة أسطورية – ربما – في أجواء من الرعب والتشويق والبوليسية. فالإسقاط السياسي قد يعمد إلى اللجوء للتاريخ كما فعل مسلسل “واحة الغروب”، أو يلجأ للأسطورة غير الواقعية.
الإسقاط السياسي والالتفاف عليه
في كتاب مؤسس علم الاجتماع أو العمران البشري ابن خلدون “المقدمة”، كتب بابًا شهير في “أن الظلم مُؤذنٌ بخراب العمران” ، وبدا أن رسالة المسلسل تدور في زمرة من الإسقاطات السياسية تؤكد المقولة ذاتها التي وضعها عالم الاجتماع المغربي منذ قرون مضت.
لا يتوقف ذهن المشاهد على استدعاء الواقع السياسي المصري وهو يشاهد الأحداث المتتالية في إطار تشويقي امتزج بالرعب والإثارة التي ارتكزت الدراما عليه، قصة لعنة قد حلّت بالكفر غير معلوم أسبابها، شيئًا فشيئًا تتكشف حقائق للطبيب الشاب الغريب الذي أتى إلى الكفر ليعالج أهله “يوسف الشريف”، فيكتشف أن اللعنة سببها جريمة قتل، اشترك فيها أبناء كبار البلدة، شيخ الغفر “ممثل السلطة السياسية”، والقاضي “ممثل العدالة”، وأغنى أغنياء الكفر “ممثل القوة الاقتصادية ومركزها”. “لعنة الدم” تعود لتطالب بأخذ الثأر من هؤلاء القَتلَة أبناء شخصيات نافذة في مجتمع الكفر التي بالطبع تأبى أن يتأذى أحد من عائلتها حرصًا على اعتبارات السُمعة والمكانة.
الفكرة نفسها تيمة قديمة ومستهلكة، لكن بدت طازجة جدًا في إطار من واقع سياسي مازالت لعنة دم العديد من الشهداء الذين سقطوا في موجات ثورية حدثت في فترة وجيزة تلاحقه ولم تأخذ ثأرها بعد ، فنجد أنفسنا قد وقعنا في فخ المتابعة بل تتبع هذا الإسقاط بشغف يطفيء قدرًا ولو يسيرًا من رغبتنا الدائمة في إثارة الموضوع والإبقاء عليه كقضية لم تنتهِ بعد، لعنة تنذرنا جميعًا بالفقر والعَوز والخراب، ونذهب مع الفكرة الخيالية لآخرها لنتساءل، ماذا لو عادت أرواح مَنْ استشهدوا ظلمًا ليجعلوا من حياتنا حياةً أفضل ولم يُؤخَذ بثأرهم بعد من قاتليهم ،لينتقموا من خذلاننا لهم وسكوتنا على الحق إما بفعل الخوف، أو استسلامًا للحياة ومتطلباتها؟! .
يظهر لنا الطبيب سعد كمحقق يحاول أن يكشف خيوط جريمة مكتملة الأركان وتم التستر عليها بسبب شخصية مرتكبيها، وكل مبتغاه أن تتحقق “العدالة”، وأن الداء الحقيقي الذي يصيب أهل الكفر هو “الخوف” والصمت عن الحق، ولا يصح للطبيب أن يعديه المرض وإلا تقاعس مع المتقاعسين. فلابد من لعنة تأخذ الحق منهم جميعًا، نفس الفكرة التي تحدث عنها السوري عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الشهير “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” عندما تحدث عن أن الحاكم الظالم هو عقاب لمحكوميه نتيجة سكوتهم عن ظلمه، تمامًا مثل لعنة لا تحل عنهم إلا بثورتهم على الظلم والطغيان. وكعادة دراما التشويق يظهر الطبيب سعد كبطل لديه مجموعة من المعاونين، بينما يوجد “أبو العز” شيخ الغفر كبطل ضد يحول بينه وبين الوصول لهدفه ومعه أيضًا مجموعة من المعاونين ومن هنا ينشأ الصراع الدائم بين الخير والشر، بين من يريد للعدالة أن تتحقق وبين من يمنع تحقيقها لمآرب أخرى في نفسه. الطبيب يعول على الظهير الشعبي وأن يتخذ من الشعب أهل الكفر سندًا له في صراعه لتحقيق العدالة وفك اللعنة عنهم، فنجد في مشاهد قليلة جدًا ربما مشهدين أو ثلاثة عندما يتخلى أهل الكفر عن سلبيتهم ويقرروا أن يأخذوا صف الحق ويذهبوا للحاكم ليطالبوه بتحقيق العدالة فتهتز ثقته بنفسه ويفقد السيطرة ولو لوهلة، ما يشير إلى أن قوة الشعب في تكاتفه واتحاده في وجه الطاغية.
ونستمع لصوت أحد التجار “نعيم العطّار” يحاول أن يشكك في جدوى هذا الحشد ويدعو الناس أن يذهبوا ليباشروا أعمالهم لأن هذا أفضل لهم – لتسير عجلة الإنتاج – ويتفرق الحشد بناءًا على وعود كاذبة من شيخ الغفر الذي يحمي مرتكبي الجريمة وييسر لهم في الحجز سبل العيش المريح ويعدهم بأنها موجة ستمر وسيعدون لمنازلهم قريبًا وأنهم في مخبأ لحمايتهم لا لاحتجازهم بغرض محاكمتهم التي لن تحدث لأنهم كبراء وأبناء كبراء ولابد من تهدئة غضبة الجماهير التي سرعان ما ستزول – أليس هذا كله بحادث فعلًا في قضية قتل المتظاهرين مثلًا ؟! – . كذلك استخدام الطاغية للخرافات وترويج الأكاذيب ليبسط سيطرته على البسطاء والجهلاء، فتصل به الجرأة لاستخدام الدين للضحك على أذقان العامة والبسطاء أن يدفن جثة القتيلة المظلومة ويبني فوقها مقامًا لإمام وهمي ويطوف كتيبة من رجاله المجاذيب بالأمر ليروجوا للبركات والكرامات الكاذبة على طريقة صكوك الغفران ليحصدوا الأموال من أصحاب الحاجات الذين يبتهلون لرجال الله الأتقياء لقضاء حوائجهم.
إذن هي قصة مكرورة من الظلم والفساد الذي لا ينتهي في أي زمان ومكان، والدعوة الصريحة – أو التي ظننا أنها صريحة من صناع العمل – أن الثورة وقول الحق هو المنجاة من كل هذه الشرور التي يقع فيها الصامتين على الاستبداد والقهر والظلم.
نهاية مخيبة للآمال
في مراحل المسلسل الأولى لم يظهر أن شخصية الطبيب بحاجة لمساحة كبيرة من الإبداع في التمثيل، بدا هادئًا طوال الوقت بملامح flat كما يقال خالية من التعبير، لا تتغير لشيء حتى وهو على وشك أن يتم إعدامه، في البداية الطبيب لا يحرك أحاسيسه شيئًا هو فقط منساق للكشف عن أدلة القضية التي تبناها . بعد ذلك وباستخدام لعبة سردية هي ال flash back، وحيلة أخرى من ألعاب استخدام الحكي بالزمن، نجد أنفسنا في الحقيقة أمام قصتين لا قصة واحدة، قصة تروى أمامنا في الزمن الحقيقي أو الطبيعي للمسلسل ، وقصة أخرى تسير في اتجاه عكسي من نهايتها حتى نصل لبدايتها التي معها تتكشف كل دوافع الشخوص وأسرارهم ، والصراع الحقيقي الذي معه نكتشف مبرر هدوء الطبيب لأنه هو مسيِّر كل هذه الأحداث وهو الماسك بخيوطها كأنها عرائس ماريونت في يديه، جنود تتطوع لتحقيق خطته في الانتقام لوالدته من قاتليها، فللطبيب قصة أخرى موازية لقضية مقتل الفلاحة “ريحانة” ، هي قصة مشابهة لها في تفاصيلها، وأن أمه نفسها تعرضت لجريمة قتل بشعة واسمه الحقيقي شهاب الدين. ومع سقوط القناع عن الدافع المحرك للطبيب نكتشف أن الإسقاط السياسي لم يكن هدفه من البداية، وخصوصًا مع مشهد النهاية غير المتوقع ، وهو مشهد جيد – حتى نكون منصفين – أدى فيه يوسف الشريف أفضل أداء له في المسلسل كله، وجاءت متسقة مع مع أراده صناع المسلسل لتكريس نفسه الفكرة، أن المظلوم إذا لم يأخذ حقه بالعدل تحول إلى ظالم وتكتمل دائرة الدم.
هذه النهاية الوعظية خيّبت آمال مَنْ صدّقوا فكرة الإسقاط السياسي وتتبعوها لأن المسلسل خصوصًا في آخر حلقاته حشد كل طاقته ليقدم مشاهد عديدة من الفلاش باك المتكرر الذي أسرف المخرج أحمد جلال في استخدامها لحل كل خيوط المسلسل، فأصبحت حيلة مجانية لكشف أشياء بدلًا من أن نرى أحداثًا تجري على الشاشة ، والذي زاد من ضعف هذه المشاهد فضلًا عن تكرارها أنها لم يكن لها مبررًا دراميًا قويًا ، وكان من الممكن التفكير في حيل بديلة لقول ما أرادوا قوله دون استطراد بدا استسهالًا.
بالرغم من كل هذا حتى لا نبخس العمل حقه، يظل مسلسل “كفر دلهاب” عملًا قويًا، مكتوب بشكل جيد ومشوق، عناصره مكتمله من حيث الملابس والديكورات، والإضاءة والمؤثرات الصوتية، والجرافيك ، والجهد المبذول فيه طيب ومبشر لأن تملك مصر قدرة فعلية على إنتاج أعمال درامية تقترب مما نشاهده في الدراما الإنجليزية والهوليودية.