عزيزي القارئ.. إذا كنت لم تسمع عن تأثير “دانينج – كروجر”.. أو Dunning-Kruger effect.. فأرجو أن تعيرني انتباهك قليلاً..
القصة تبدأ في منتصف التسعينيات.. حين تم القبض على معتوه يدعى “أرثر ويلر” وهو يحاول أن يسطو على بنك في وضح النهار..
لم يكن ضمن عصابة مسلحة.. بل لم يكن مسلحاً من الأساس.. لقد دخل البنك وعبر من باب الموظفين ليتجه مباشرة إلى الخزينة الكبرى ليحاول فتحها بكل أريحية!!
الطريف أنه أفصح خلال التحقيقات عن السبب.. والحق أنه كان سبباً مثيراً للدهشة!!
لقد صرح “ويلر” أنه قد دهن نفسه بعصير الليمون.. وهو يؤمن أنه مثل الحبر السري فسيقوم بإخفائه تماماً!!
أي أنه اقتنع فعلياً أن استخدام عصير الليمون سيجعله غير مرئي للناس.. مما سيمكنه من إتمام السرقة دون أن يراه أحد!!
القصة حقيقية تماماً.. وكأنها تقليد لفيلم “سر طاقية الإخفاء” العربي الستيناتي الشهير، والذي كان يرصد فكرة العمل والاجتهاد في مقابل الثراء السريع -وهي إحدى الأفكار التي كان يروج لها إعلام الثورة الموجه- فقط كان الفارق هو عصير الليمون بدلاً من البودرة السحرية!!
لقد أثارت الثقة التي كان يتحدث بها ذلك اللص شهية اثنين من أكبر علماء النفس في ذلك الوقت وهما “ديفيد دانينج” و”جاستن كروجر” ليقوما بدراسة “ويلر” بدقة.. حتى خرجا بنظريتهما الشهيرة التي سميت باسمهما معاً “تأثير دانينج – كروجر”!
لقد أقر العالمان أن الأشخاص قليلي الذكاء ومعدومي الموهبة هم أكثر ثقة دائماً.. بينما يعاني الموهوبين والعباقرة من الشك المستمر في موهبتهم وقدراتهم الشخصية.. حتى أنهم يترددون قبل اتخاذ أي قرار أو القيام بأي عمل!!
الأمر لا يحمل استثناءات تقريباً.. فالكاتب الموهوب تجده مقلاً، يتملكه الشك في جودة ما يكتبه دائماً، حتى أنه في الأغلب لا يحترف الكتابة، لأنه يشعر دائماً أن أفكاره ستنضب يوماً ما .. أو أنه سيفشل في إخراج ما يرضي عنه فيتوقف ويجوع هو وأبناؤه، بينما يفخر أنصاف الموهوبين أنهم يكتبون دوماً بطريقة رائعة، فيملأون لنا كتباً ومؤلفات تثير الغثيان في أغلب الأحيان!!
والملحن الجيد ستجده يخرج لحناً أو لحنين في العام.. بينما ينتج البعض لحناً كل يوم.. وهو يفخر بأنه الملحن الأول في مصر والعالم العربي!!
يحكى أن الدكتور الظواهري أستاذ الأمراض الجلدية الأشهر قد مر على العيادة الخارجية لقسم الجلدية يوماً، فسأل الطبيب المقيم عن الحالة التي يباشرها، فأجاب أنها حالة “جرب” عادية، فما كان منه إلا أن تناول العدسة المكبرة، وأخذ يفحص الحالة لمدة طويلة تقارب الساعة، ثم هز رأسه للطبيب الشاب وانصرف، وحين سأله تلاميذه ومريديه الذين كانوا يلتفون حوله عما فعل، خاصة أن حالة “الجرب” من أسهل وأشهر حالات الجلدية، فلا يستغرق تشخيصها أكثر من دقيقة لشباب الأطباء، أجاب بأنه كان يشخص الحالة بين ألف مرض يعرفه، بينما يشخصها الشباب من بين مرضين أو ثلاثة يشبهونها!!
المشكلة الكبرى في هذا الكون أن أنصاف الموهوبين والجهلة يثقون بأنفسهم بامتياز، لذلك فهم يملأون العالم صراخاً، بينما يعيش العلماء والموهوبين في شك مستمر، فلا تجد الكثيرين منهم يحاول أن يتصدر المشهد!!
إنه عالم أنصاف الموهوبين وأشباه العلماء الذين يحملون دوماً.. يقيناً مثيراً للإعجاب!!