“النظر إلى من يكتب بعين الحاجة للشهرة والمال”، “الكتابة الصحفية أصبحت بلا مقابل”، “تكرم الصحف والمواقع بالنشر على الكتّاب”، “غياب الوعي الصحفي”، معدلات القراءة تحدد مصير الكتُاب”، “عدم الخبرة ومجهولية أسماء الكتّب استغلال أم إفادة ودعم؟!”، “الفروق الفردية بين الكتّاب المحترفين والهواة”، “سرقة مجهود أم ضعف في المادة التحريرية؟!”… إلخ.
اعتبارات عديدة تغيب بعضها عن إدراك جيل صغار الكتّاب، خاصة في ظل سعيه لتحويل مسار الهواية إلى مهنة، واتخاذ الكتابة كمجال عملي، ثم تطوير ذلك المجال إلى احتراف في النهاية، دون معرفة ما له وما عليه، هنا يتجلى فقدان الوعي الصحفي في أبرز مظاهره، فلا يلبث أن يبدأ في ضخ انتاجه الفكري من كتابات، حتى يظن أنه أصبح جديرا بارتياد ثوب الإجادة والتحليق بعيدا في سماء الكتابة الصحفية، دون أدنى معرفة بأن أول درجات سلم الاحترافية هو أن يقف ويتطلع إلى تقييم ذاته.
بداية من معايير وضوح الأسلوب، ومستوى انقرائية المنتج الأدبي، واكتساب خبرات من السابقين، إلى الاهتمام بالتجديد والابتكار، فالكل شغوف بالقمة والوصول إلى الأعلى بسرعة الصاروخ، بغض النظر عن اجتياز مستويات الترقي المختلفة.
دعنا نفرّق في البداية بين نوعين من الكتّاب؛ الأول محترف بذل من الجهد والمال وعمل على تطوير نفسه حتى وصل لدرجة من الكفاءة والجودة، فلا يناسبه الكتابة بالمجان، لأن الكتابة أضحت تمثل له “لقمة عيش” فضلا عن أن المساحات المخصصة للقراء لم تعد مناسبة للنشر له.
أما النوع الثاني -وهو من نكتب عنه- ما زال في مهد الطريق، في حاجة إلى التجربة والنشر حتى يتم الحكم عليه، ومن ثم يأخذ الملاحظات والتعليقات بعين الاعتبار، حتى يقوم بتطوير إمكانياته بما يتناسب مع طموحه، فمن الطبيعي ألا ينتظر مقابلا ماديا في مرحلة تعد تجربة جديدة وبداية الرحلة له، خاصة وأن الخبرة التي يحصلها في تلك الفترة -إضافة إلى الفرصة التي تتاح له- أفضل من المال آلاف المرات.
مكاسب متنوعة قد يجني ثمارها صغار الكتّاب ويحصدوا منافعها، في الاتجاه المضاد للمقابل المادي، أولها هي تحقيق الانتشار لنفسه على صفحات إحدى الجرائد التي لها جمهورها أو المواقع الإلكترونية صاحبة الشعبية الواسعة، فيتمكن الكاتب من خلاله تحقيق نسب مشاهدة حتى لو بسيطة في البداية تساهم في معرفة جماهير القراء به، ومن بعدها يأتي الانتظام في الكتابة؛ هنا يستطيع المطالبة بالحصول على أموال نظير كتاباته.
تلك المكاسب لا تتوقف عند تلك المرحلة، بل تمتد لتشمل زيادة الممارسة من خلال الانتظام في الكتابة وما يترتب عليها من المراجعة اللغوية المستمرة، الأكثر من ذلك هو تأسيس إنتاج أدبي فائق الجودة، يعتمد عليه في دعم سيرة ذاتية ناصعة، فضلا عن تحديث الأسلوب، والعمل على تطوير الذات، فيسلك الكاتب مذهب الاحترافية، وتُعتمد كتاباته بختم الكفاءة الأدبية.
عندما نقارن بين الوضع الحالي وما شهدته الأجيال السابقة من صغار الكتّاب، نجد أن هناك تفاوتا حقيقيا، فعلى الرغم من شتى أنواع الفرص المتاحة حاليا أمام هؤلاء الكتًاب، إلا إنها قد لا تحوز على رضاهم، في حين أنها لم تتوفر -بشكلها الحالي- أمام الأجيال السابقة، والتي كانت تشدو وتتلهف على نشر مقال أو قصة قصيرة لها حتى لو كان مقابل المال.
المقارنة بين الوضع الحالي والسابق أيضا تمتد إلى رصد ضعف التفاعل مع رسائل القراء والذي ساهمت تكنولوجيا مواقع التواصل الاجتماعي في زيادته بشكل كبير، فقديما كان يتم نشر منتج من بين المئات من الرسائل المرسلة ويتم الاحتفاء به فيظهر من خلاله الكتاب الحقيقيين، بل إن طبع أي كتب وقتها كان لا يأتي إلا عن طريق مجهود ذاتي ضخم، عكس ما يتم حاليا من اعتبارات أخرى للنشر أحيانا تتميز في كثير من الأحيان بالسهولة الشديدة.
على الرغم من أن التمعن في شتى أنواع الفرص المتاحة حاليا لصغار الكتّاب قد لا يحوز على رضا البعض، لكن المؤكد أنها لم تتوافر بشكلها الحالي أمام الأجيال السابقة والتي كانت تشدو وتتلهف نحو نشر مقال أو قصة قصيرة لها، مقابل المال، على الرغم من خطأ المبدأ ككل، إضافة إلى ضعف التفاعل مع رسائل القراء بوضعه الحالي، والذي ساهمت تكنولوجيا مواقع التواصل الاجتماعي في زيادته بشكل كبير، حيث كان يتم نشر منتج من بين المئات من الرسائل المرسلة، كما أن طبع كتب تضم أعمال وكتابات أصحابها حينها، لا يأتي إلا عن طريق الجهود الذاتية والنفقات الشخصية لأصحابها عكس ما يتم حالياً.
وتحديد العوامل المؤثرة في فكر وثقافة جيل الكتّاب المبتدئين حاليا ليس سهلا، وهذا يرجع لصعوبة حصر التيارات الثقافية والاجتماعية التي يحتكون بها مباشرة، عكس ما كان يحدث مع الأجيال السابقة، إضافة إلى تشابك المؤثرات الواقعية والنفسية وتفاعلها، وظهور تلك المؤثرات في تحليل الواقع المعيشي والمبادئ السائدة – بشكل غير مباشر- ولكن بعد أن بلغت النضج والمعرفة اللازمة.
“معدل قراءة المادة المنشورة”- وهي الأهم- والذي يخيل للبعض من صغار الكتّاب أنه يلعب دورًا محوريًا في زيادة قراء الصحف أو زوار المواقع، لكن حقيقة الأمر تخبرك بخيبة تلك التصورات، خصوصا وأن مقالات القرّاء لا تجلب أي نوع من “الترافيك” والذي يذهب عادة للأخبار الصفراء وتصريحات المشاهير فقط.
لذا فالنظر بعين الاستغلال والانتفاع للصحف والمواقع الإلكترونية من جانب صغار الكتّاب تجاه إنتاجهم غير مبرر، طالما أن العقد شريعة المتعاقدين بين الناشر والكاتب، فلا أحد مجبر على اتخاذ إجراء أو خطوة تخالف مصلحته بما يتماشى مع أخلاقيات العمل الصحفي الحر، كما أن الموضوع في أساسه غير مربح ماديا للوسيلة المقروءة ، بل على العكس يتم الإنفاق على نشر الكتابات المختلفة من مراجعات وتصحيح لغوي بجانب التواصل مع الكاتب في بعض الأحيان، وخوف البعض من سرقة وتسرب إنتاجه الكتابي بدون حفظ لحقوق الملكية الفكرية الخاصة به، يدفعه إلى الاحتفاظ به لنفسه دون نشره حتى على صفحات التواصل الاجتماعي.
تقديم النصح لصغار الكتُاب والمبتدئين منهم، وابتكار الاقتراحات للوصول إلى مبتغاهم، يتلخص في عدم التوقف عند محطة نشر أعمالهم على المدونات الإلكترونية “البلوجات” الخاصة بهم، أو طبعها في كتب على نفقتهم كمحاولة للفت الأنظار اليهم، لكن تجاوز ذلك إلى ترسيخ فكرة الصعود إلى قمة الهرم من البداية وتخطي القاع أولا كإدراك عقلي، إلى جانب ضرورة الاهتمام بجودة إنتاجهم الأدبي، وتحسين مستوى أعمالهم باستمرار لضمان الحصول على فرصة قد تكون هي علامة النجاح وإشارة التألق.