في الوقت الذي عَقَدَت فيه «الجامعة العربية» اجتماعًا طارئًا «تقليديًّا» لمناقشة الأزمة في القدس، انسحبت القوات الإسرائيلية من أمام المسجد الأقصى، وسط فرحة آلاف المعتصمين في الشوارع المحيطة به وعند أبواب القدس القديمة، فدخلوه لأول مرة منذ أسبوعين، وصلّوا العصر، ورفعوا العلم الفلسطيني على المسجد احتفالًا بما وصفوه نصرًا، صاحبته أفراح أخرى واهمة (مثل الحَمْل الكاذب) على «السوشيال ميديا»، تنسب النصر لملوك وحكام عرب ومسلمين ادَّعَوْا الجهاد لنصرة الأقصى، قبل أن تفاجِئ القوات الإسرائيلية الجميع وتعود أدراجها لتفسد الفرح بعد ساعة واحدة، وتنزع العلم الفلسطيني، وتخلف وراءها عشرات المصابين من الفلسطينيين.
ورغم ذلك يحقُّ للشعب الفلسطيني (فقط) يتقدَّمُهم أهل القدس الشرقية أن يفرحوا ويوزعوا «الزلابية» (حلواهم الشعبية الشهيرة)، احتفالًا بكسر إرادة المحتلِّ الإسرائيلي الغاشم (حتى لو ساعة)، الذي أُجبِر على التراجع (المؤقت) عن إجراءاتِهِ الأمنية غير المسبوقة، التي تَمَثَّلَت في إغلاق الحرم القدسي الشريف أمام المصلين لأول مرة منذ عام 1969، ثم محاولة نصب بوابات إلكترونية وكاميرات مراقبة أمام أبوابه، وتبني إجراءات أمنية متعسفة حالت دون دخول المصلين لممارستهم شعائرهم الدينية، بما نجم عنه هذه الموجة من الغضب العارم.
لقد عزف المقدسيون لحنًا رائعًا في النضال والعطاء خلال الأسبوعين الماضيين، وتنافسوا في تقديم وجبات الطعام والماء دعمًا للمصلين والمعتصمين أمام أبواب المسجد الأقصى وفي الشوارع، وكانت «القدرة» الفلسطينية هي وجبة «الخميس»، التي أعدَّها سكان حي العيسوية من اللحم والأرز، ومعها «الصفيحة» المكونة من لحم بالعجين، ووُزِّعَتَا تحت شعار «طعام النصر».
وبينما عاش المسلمون حول العالم أيامًا عصيبة من القلق، يترقبون مصير مسجدهم الأقصى؛ قبلتهم الأولى وثالث الحرمين، تسابق زعماء وملوك ليتاجروا بالقدس، زاعمين قيامهم بأدوار وَهْمِيّة، ليشغلوا إعلامهم بحروب خرافية توحي بأن مليكهم (أو مالكهم) قد امتطى صهوةَ الجهادِ ونزل ساحة الحرب ضد العدو الصهيوني، وأشاعوا قصدًا أجواء النضال والحرب، ليُلهوا شعوبهم عن جرائمهم الداخلية.
أما الشرفاء والعقلاء من الحكام، فقد عَبَّروا عن رأيهم الواقعي بحكمة، وكان في مقدمتهم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي وجَّه قبل أيام حديثًا هادئًا للحكومة الإسرائيلية وللشعب الإسرائيلي في مؤتمر الشباب بالإسكندرية، حيث قال: «من فضلكم، أرجو ألا يكون هناك عمل يترتب عليه إجراءات مستفِزّة، وبالمناسبة إحنا بنعمل كده مش عشان نزايد ونقول إحنا حماة والكلام ده، الأمور محتاجة تتعالج، عايزين نعيش جنب بعض، وده ندائي وبتمنَّى إن القيادة الإسرائيلية تتجاوب معه».
ربما يسخر بعض المتاجرين من هذه المواقف الحكيمة، وسوف يتبارى آخرون لإثبات أنهم أصحاب دور حقيقي لدفع إسرائيل إلى أي تراجع، لكن الحقيقة أن كلَّ هذا هراء، والشعب الفلسطيني سيظل وحده البطل، أما العرب (المخدوعون)، فعليهم أن يكتفوا بالتهام «الزلابية» أمام الفضائيات، وهم يحتفلون ببطولَتِهِم الزائفة.
انتصر الأقصى (مؤقتًا) ليستمر نضال الشعب الفلسطيني.. الذي يجب ألا يطمئن ويغفل عن جبروت العدو وغدره، فالقدس ستبقى في خطر، وإسرائيل لن تصمت، ولن تسمح حتى لو بنصر معنوي للفلسطينيين، وستجتهد دائمًا في إفساد أي فرحة فلسطينية وتلوينها بالدم.