الصحفي الشاب محمد توفيق، بالتأكيد شاب وهو خارج من حقل الألغام بأهم كتاب لعام 2017 ولأعوام قادمة “الملك والكتابة”، كتاب يحقن الصحافة جرعة أكسير شباب محظورة دائما بأمر الملك، كل فصل من الكتاب هو صدمة كهربية لإنعاش قلب الكتابة الممدد جسدها في الانعاش.
عبقرية العنوان، وذكاء اختيار معارك الملك والكتابة على مدار نصف قرن، قالت الخلاصة.. سجلت، وتنبأت، وحذرت، الكتابة أقسمت أن “الله على ما أقول شهيد”، وأنها عاشت وستعيش فاعل في حلبة، مكر مفر، وأن الشعب سيظل مفعولا به مستمر، طالما أن الدولة هي الراعي الرسمي لتأمين جهل الشعب.
صراع الملك والكتابة في نصف قرن كان ملتهبا، لأنه صراع أصدقاء أضداد، توم وجيري، استخدمت فيه “الكتابة ” كل فنون البوح، واستخدم فيه “الملك” كل فنون القمع، ولم ينجح أحد في إزالة الحواجز وبناء الجسور.
كتاب محمد توفيق “الملك والكتابة”، “الصحافة والسلطة”، “الحاكم والمعارضة”، “السلم والتعبان”، صراع “اتنين خايفين من بعض جدا”، الأول ملك، سيفه يحصد بمجرد إشارة، لأن أعداؤه هم أعداء للوطن، وخلفه جيوش أتباع مذعورة لتنفيذ أحلام وأوامر أي ملك، والخائف الثاني، هم حفنة صحفيين فدائيين، مفخخين بكلمة الحق التي هي قسم المهنة، سيوفهم قادرة على زلزلة عروش وإضاءة كشافات، لكن خلفهم هرم من شعب منقسم على ذاته، قاعدته تبحث عن طعام، ولا تثور إلا إذا جاعت، يليها طبقة متوسطة مزعجة أنهكها حلم المدينة الفاضلة، والجهاد للخروج من بئر الحرمان، وعلى قمتها أسياد النصف في المئة _والله أعلم يمكن أكتر_ يتنافسون لرفع معدل الرفاهية في الكومباوندات والمنتجعات، وحول الهرم أمن اختلط عليه التمييز بين الحرامي والضحية وسط صفوف الشعب.
وسيظل قدر الكتابة أن تعيش في مرمى نيران كل من اعتلى كرسي أي سلطة _ولو أمين شرطة_ لو هبت رياح غضب الملك منها، والملوك سريعو الغضب، خلقهم ضيق من كثرة المسؤوليات وندرة الحكماء، لا يتحملون نقدا من الكتابة التي تري وتقرأ وتقارن وتستنج، فينفصل الملك عن الكتابة رغم أنهما وجهي الوطن، ويخبو رونق العملة، تخدشها جروح تحتاج أطياب، تبدأ بتطهير الكتابة من الموالين والمرتزقة، ونزع الأسلاك الشائكة عن قصور السلطة، وإزالة الزجاج المزدوج عن نوافذها، لأنه يسمح بالرؤية لكنه يحجب صوت الأنين.
المعضلة في علاقة الملك والكتابة أنهما توأم ملتصق، خصومتهما هي فصل فيه موت الطرفين، ناتج عن سوء فهم، ففرسان الكتابة يقفون شامخين في مواجهة الملك لمساندته وليس للتربص به، لأن الهدف واحد، كالراعي والحراس، لكن عندما يتحولا إلى خصمين يدافعان عن نفس المبادئ، هنا تنتهي المسرحية بعد الفصل الأول، ينصرف الشعب، وينحرف المسؤولون، ويتفشى الفساد، ويعيش القانون قزما، والدستور وثيقة محفوظة في دار الكتب، ويسود قانون الغابة.
محمد توفيق لم يفعل أكثر من براءة الذئب، انتقى عشرات أحداث، رسمت وترسم ملامح مصر أمس واليوم وغدا، كل صفحة في كتاب (ملك وكتابة) هي كتاب، قصة حياة مصر منذ انطلاقها من شرنقة الملكية، مرورا بأهم محطات مشوار حياتها كجمهورية مستقلة، حكمها مصريين بدأوا ثوارا على ميراث عبودية المواطن المصري داخل وطنه، وانتهت عهودهم بفتح المعتقلات ومطاردة المعارضين وتأميم الصحف وزرع رقيب خفي مذعور في عقل كل صحفي، ورقيب علني موظف مدير بكل صحيفة يتبعه صحفيون عسس أمنجيه، نشر السلبيات في قاموس الرقيب هو تصيد أخطاء ونشر يأس ودعوات للتمرد، أي إضرار بالأمن القومي يتطلب عقوبات جنائية.
يصطاد محمد توفيق فراشات وينثر زهورا في بلاط صاحبة الجلالة.. التقط من عام 69 (بعد النكسة) عدة لقطات صحفية، منها رسالة من يوسف السباعي ينعى فيها صديقه الفريق عبد المنعم رياض بعد استشهاده في معركة الاستنزاف التي كبدت إسرائيل خسائر فادحة، كتب السباعي الفارس والصحفي بعنوان “استشهد لأن القائد لا يحارب من المكاتب بل على الجبهة”، ختمها ب” أنصفت جيلك وبلدك والقومية العربية، بموتك جعلت من أقوالنا أفعالا”، والتقط فكرة إيجابية طرحتها مجلة آخر ساعة لإنعاش إرادة القارئ، تقول هبط الانسان على القمر فكيف تتصور الحياة سنة 2000! وتوقعت المجلة أن تدخل النساء السوبر ماركت لشراء أجنة متجمدة عمرها يوم واحد، خالية من الأمراض ودرجة ذكائها عال، يزرعها الطبيب في رحمها، وأن عدد السكان سيرتفع إلى 78 مليون.. ومتوسط دخل الفرد 3600 دولار سنويا ( 300 دولار شهريا من 17 سنة!!)، وأن مصر ستكون من أفضل 19 دولة في العالم.. أوكي.. ونكش محمد توفيق في علاقة جمال عبد الناصر بالصحافة، ما بين الغرام والانتقام، متمثلة في علاقته بهيكل، التي تلونت بالصداقة الشخصية، وتبادل المنافع، والمشورة الأقرب للمشاركة في الحكم، والغضب لحد الاعتقال للتأديب، وإهداء المناصب وتعيين هيكل وزيرا للإرشاد القومي، وقرار تأميم الصحافة الذي هاجمه جلال الدين الحمامصي أحد نبلاء المهنة فتم رفده واعتقاله.
ونقفز عاما إلى جنازة ناصر عام 1970 التي سار فيها 20 ألف عربي، وخرجت أخبار اليوم بقيادة هيكل بمانشيت” سكن الحزن في كل بيت”، وبعد شهرين من موته انتهى بناء السد العالي ولم يحصد فرحته.
وكانت الصحافة مرصعة بالنجوم، فسجل صالح مرسي مذكرات تحية كاريوكا _التي اختفت_ ثم أعلن السادات 1971 عام الحسم وتأخر في التنفيذ، فاندلعت المظاهرات الطلابية ضد حالة لا سلم ولا حرب، وتم تنفيذ خطة اعتقال وزير الحربية والداخلية وسامي شرف سكرتير ناصر بسبب جلسة تحضير أرواح مسجلة أمنيا، والغضب على السعدني أحد عمالقة الصحافة وسجنه ومنع نشر اسمه حتى في صفحة الوفيات، وتسجيل الصحافة لبطولات الجيش، وأحدها قصة إبراهيم الرفاعي واحد من العلامات الفارقة في تاريخ العسكرية المصرية، والذي رصدت إسرائيل 70 مليون جنيه مكافأة تسليمه حيا أو ميتا، وارتفاع توزيع الأخبار إلى 100,000نسخة أيام أحمد رجب ومصطفى حسين عام 74 بعد الافراج عن مصطفى أمين، وعودة الأخوين مصطفى وعلي إلى دارهم بعد تأميم الصحافة أخذا بنصيحة هيكل، استقالة الرئيس الأمريكي نيكسون لأنه كذاب!!، وتصفية الكاتبة المصرية المعارضة درية شفيق (إلقاءها من الدور السادس)، القرارات الاقتصادية الصادمة للمجموعة الاقتصادية برئاسة عبد المنعم القيسونى تحت ضغط الصندوق والبنك الدولي كشرط للقروض، ارتفاع أسعار الخبز والتموين واللحوم والبنزين والمنسوجات، واندلاع ثورة 18و19 يناير 77 الشعبية ضد الجوع، وفرض حظر التجول وإلغاء القرارات ونزول الجيش إلى الشوارع وهروب السادات إلى أسوان.
وبعد الهدوء والتعديل الوزاري أجري استفتاء شعبي على القرارات فجاء موافقة 99,9%.!!- أيام!-. واشتباكات روز اليوسف المهنية راقية مع أخبار اليوم، موسى صبري ضد صديقه صلاح حافظ، لأن موسي وصف -دون تجريح- الانتفاضة بمؤامرة تخريبية ماركسية، وحافظ بأنها ثورة شعبية ضد النظام، وبدأ قمع حرية الصحافة تمهيدا لزيارة السادات للكنيست، واغتيل يوسف السباعي في قبرص لذهابه إلى القدس مع السادات، وأسباب موت صلاح جاهين.
و87 بداية الإرهاب، وازدهار روزا اليوسف بالتصدي له وبحث أسبابه والتنبؤ بنتائجه، مثل عنوان” عفوا فضيلة الامام الأكبر، أين دور الأزهر في مواجهة الإرهاب”، وأبدع رسامو كاريكاتير روزا وصباح الخير، ثم صفقات الانفتاح والريان والسعد.
محمد توفيق فتح سجل التاريخ الحي للوطن، ألبوم صور مصر أمس واليوم وغدا، بأقلام نبلاء كانت الصحافة لهم مهنة ورسالة ودين بما تستحقه من تضحيات، يا محمد تستحق منا وساما لأنك الوريث الشرعي لجيل النبلاء الأمين، كتابك يمنح المناضلين قوة، والخائفين شحنة مقاومة وصمود، ويضمد جراحات، وأصبح استكمال مسيرة “الملك والكتابة” واجبك الحتمي، ربما ينتبه الملك ويبدر البذور السحرية للصفاء والمودة المستدامة بينه وبين الكتابة، ويرويها الطرفان لتنبت أكيد، ولو بعد حين، ساعتها الملك والكتابة لن يكونا اثنان خائفان من بعضهما، بل وجهان مبتسمان للعملة الذهبية للوطن.