محمد حمدي سلطان يكتب: الحياة على طريقة إبراهيم سعيد

لم أرٙ فى حياتى لاعبًا مثله، فإبراهيم سعيد لم يكن أبدا لاعبًا عاديًا ولا شخصًا تقليديًا، فكل ما فيه غريب وجديد وفريد من نوعه، ربما لم تتفق جماهير الكرة فى مصر على شيء مثلما اتفقت على كونه صاحب أهم وأعظم موهبة مهدرة فى تاريخ الكرة المصرية، لاعب “فلتة” ومدافع عبقرى بإمكانيات تضاهي أكبر نجوم العالم، ولكنه أضاع أكثر من نصف عمره الكروي في مشاكل وخناقات وصراعات وتنطيط وكلام ورغي حتى تحول من مشروع لاعب خارق إلى أطلال موهبة منتهية، وبقايا نجم هوى، نصف أسطورة لم يُكتب لها أن تكتمل فتحول صاحبها من ملهم إلى مجرم في حق نفسه، تحول من قدوة لعبرة، ونموذج حي لمصير كروي مظلم نستطيع أن نُحذر ونخوف منه أي ناشئ يحلم بأن يصل يومًا لنجومية محمد صلاح نجم منتخب مصر وليفربول الإنجليزى، فإبراهيم سعيد هو بمثابة “تضاد” لمحمد صلاح في كل شىء.

ونستطيع ببساطة أن نلخص الأمر على طريقتنا الشهيرة مع الأطفال بجملة “لو مشربتش اللبن قبل ما تنام هتبقى زي إبراهيم سعيدي”، هذه هي الصورة الذهنية لدى أغلبنا عن إبراهيم سعيد -وهي ليست متجنية كثيرًا- فهل هذا كل شىء؟ بالتأكيد لا، فكل شئ في الدنيا له جانب إيجابي حتى إبراهيم سعيد، وهذا المقال ليس تمجيدًا “لقلة الأدب”، ولكنه مجرد محاولة لرؤية الجانب الآخر من الصورة، الذي يرفض الكثيرين مجرد التسليم بإمكانية وجوده من الأساس، فالحياة ليست فقط أبيض وأسود كما تعتقد يا عزيزي، والبشر ليسوا شياطينًا وملائكة، ليت الأمور بهذه البساطة، فالإنسان كائن غريب معقد مليء بالتناقضات، وإذا تأملته قد تجد فى خيره شرًا، أو في شره خيرًا، لا توجد زوايا واضحة وحاسمة للرؤية، وعمومًا فمن حقك تمامًا أن ترى ما سوف أقوله في السطور القادمة مجرد كلام فارغ، ومن الوارد أيضا أن يعجبك أو تجد به شيئًا ما مفيدًا يجعلك تفكر في أن تعيش ولو لمرة واحدة فقط على طريقة إبراهيم سعيد.

1- من غير قناع

الشرط الأول للحياة على طريقة إبراهيم سعيد هو أن تعيش دون أقنعة، أعرف أنه شرط تعجيزي فنحن نعيش أزهى عصور الإدعاء، وأغلبنا لا يكفيه قناع واحد، ويحتاج في يومه لعدة “ماسكات”، ليتجمل ويزيف حقيقته، ويتقمص مجموعة من الأدوار المختلفة، يؤديها دائمًا ببراعة شديدة ولكنها مكشوفة، افتح “فيس بوك” أو “كتاب الوجوه”، وتجول بين صفحاته لترى عالمًا من الزيف، يعيش أغلب سكانه بوجوه غير حقيقية، و”ماسكات تجميلية”، إبراهيم سعيد يقدم لك وجهًا قد يكون قبيحًا ولكنه صادقًا، وهو ليس صادقًا لأنه قبيح ولكن لأنه​ حقيقي، يواجه العالم بكل سيئاته وسلبياته وعيوبه، وحتى لا يسيء البعض الفهم فلا أقصد من كلامي أن كل النماذج الجيدة هي مدعية بالضرورة، فالأمر ببساطة هو أن إبراهيم سعيد نموذج أقرب للواقع، ينتمى لعالم البشر وللحياة الحقيقية التي نعرفها، إنسان من لحم ودم يخطئ ويصيب، أما نماذج القديس والملاك والخلوق فهي أقرب للتصنع، الإنسان عمومًا اللى “عيبه الوحيد أنه طيب”، فهذا مكانه في أفلام الأبيض والأسود فلا وجود له في هذه الغابة.

2- الجنون عين العقل

شيء جميل أن تكون إنسانًا عاقلًا ومواطنًا صالحًا، تعرف حدودك جيدًا وتلتزم بالقواعد، وتعيش وفق نظام محدد، ولكن دعني أخبرك بحقيقة أن كل هذا لا يساوي لحظة جنون واحدة، مواجهة الحياة بالعقل فقط هو أقصر طريق لإصابتك بمجموعة من الأمراض المزمنة، ففي هذه الأيام “الملخفنة” يصبح الجنون هو عين العقل، وانظر إلى إبراهيم سعيد، فبينما فريقه الأهلي يلعب مباراة في حجم نهائي أفريقيا عام 2001 لم يكن يشغل باله سوى أن يخوض المباراة وهو يرتدى “نضارة”، وعندما منعه الجهاز الفني، رضخ للأمر، ولكنه عاد في اللحظات الأخيرة من المباراة وبعد أن حسمها الأهلي بثلاثية نظيفة، ليقف أمامهم ويصرخ في وجههم مهددًا “لو ماديتونيش النضارة هاجيبلكم جون في نفسي” لتخرج النضارة على الفور بعد تعليق مانويل جوزيه “ده مجنون ويعملها”.

3- سيب بصمتك

طوال عامين قضاهما إبراهيم سعيد لاعبًا بصفوف الزمالك لم يحقق أي إنجاز يُذكر، وحتى نكون منصفين فالزمالك في هذا الوقت كان يعاني من أزمات وتخبط إداري وكل يوم بمجلس إدارة جديد، فحتى لو جاء ميسي نفسه لم يكن ليحقق شيئًا وسط هذه الأجواء المسمومة، ورغم ذلك استطاع إبراهيم سعيد أن يترك بصمته الخاصة، ففي أول مباراة له مع الزمالك ورغم عودته من إيقاف طويل، ومن أول لمسة للكرة بعد نزوله كبديل مباشرة، يسجل هدفًا إعجازيًا وبطريقة سينمائية في شباك إنبي من تسديدة بعد منتصف الملعب بقليل، هدفًا لا تنساه جماهير الزمالك، ولا ينساه إبراهيم سعيد، ويبقى معنى الهدف أهم من الهدف نفسه، فمهما كانت الظروف ضدك والأجواء لا تساعدك على النجاح فيجب على الأقل أن تترك بصمتك في أي مكان تتواجد به، علامة لا تُمحى، تخبر الجميع بأنك قد مررت من هنا في يومٍ ما.

4- نقطة مضيئة

لا بد من إنجاز نقطة مضيئة في ثوبك الأسود -إن كان كذلك- تبقى شاهدة على أنه كان في الإمكان أفضل بكثير مما كان، لحظات النجاح العابرة والاستثنائية وسط دائرة الفشل المتواصل هي ما صنعت من إبراهيم سعيد نصف أسطورة، لحظات تبقى كدليل مادي عن صدق ما نحكيه عن إبراهيم سعيد، ولولاها لكان الأمر وكأننا نتحدث عن “خرافة” ليس لها أصلًا في الواقع، وهذا الإنجاز حققه إبراهيم سعيد في بداياته مع الأهلى وتألقه اللافت للنظر حتى أصبح أفضل مدافع في مصر ومحققًا نجومية كبيرة رغم صغر سنه وقتها، أما الإنجاز الأهم فهو ما حققه مع منتخب مصر بالفوز ببطولتي أمم إفريقيا 2006 و2008 وباعتراف حسن شحاتة، كان إبراهيم سعيد أحد أفضل لاعبي المنتخب في بطولة 2006 تحديدًا ومن أهم أسباب حصولنا على اللقب، وهو ما جعل المعلم يصر على ضمه فى بطولة 2008 رغم إصابته التي منعته من المشاركة في مبارياتها إلا قليلا، لتنتهي فعليًا مسيرة إبراهيم سعيد الكروية بنهاية هذه البطولة، فكل ما جاء بعد ذلك ليس إلا استكمالًا لمسيرة التخبط والعشوائية، ورغم ذلك سيبقى الإنجاز وستبقى النقطة المضيئة، فاحرص على ألا تخلو حياتك أنت أيضا من واحدة على الأقل.

https://www.youtube.com/watch?v=RbO-ClBRg-o&feature=youtu.be

5- الدنيا إيه من غير أمل

كم مرة شاهدنا فيها إبراهيم سعيد ضيفًا في البرامج الرياضية مع شوبير أو غيره من مقدميها، وفي كل مرة يخرج ليؤكد ندمه على الفترة السابقة ويتعهد أمام الجميع بأنه سيفتح صفحة جديدة وسيعود إبراهيم سعيد “بتاع زمان”، مر زمان وزمان وظل إبراهيم سعيد متمسكًا يأمل عودته لنسخة “هيما بتاع زمان”، لم يعد إبراهيم سعيد بالطبع ولكن ظل الأمل قائمًا في العودة ولو كان أملاً ضعيفًا، ففي أسوأ الأحوال وحتى ولو كان وهمًا أو أملاً كاذبًا فالأمل في غد أفضل هو الشيء الوحيد الذي يبقينا على قيد الحياة، أو كما قالت هدى سلطان “الدنيا ايه من غير أمل” عيش بالأمل.

6- حياة صاخبة

يقول توماس كارليل ” أن طموحى العظيم هو أن أموت من الإرهاق بدلًا من أن أموت من الملل ” وبالفعل فالملل هو أكبر عدو للإنسان مع احترامى للفقر والجهل والمرض، يحارب إبراهيم سعيد الملل على طريقته الخاصة، كإنسان يعيش حياةً صاخبةً لا تخلو في أغلب أوقاتها من مشاكل وصراعات وخناقات “بيتخانق مع دبان وشه”، حتى عندما خفت ضجيجه الكروي أكمل المسيرة بقضايا زواجه وطلاقه، وخناقاته المتعددة مع طليقاته والتي وصل بعضها لساحات المحاكم، ما جعله ضيفًا دائمًا على شاشات الفضائيات واسمه متداولاً بقوة بين الصحف والمواقع، تشعر وكأنه لا يستطيع أن يعيش دون مشاكل وصراعات، وكأنه سيموت لو عاش حياةً عادية هادئة مستقرة، بالطبع لا ينافسه في هذه الجزئية -بل ويتفوق عليه بالتأكيد- سوى المستشار مرتضى منصور، بالتأكيد هناك متعة ولذة ما يستشعرها هؤلاء في هذه الحياة المتوترة، متعة لا نفهمها نحن عشاق الهدوء وراحة البال، ومحبي المشي جنب الحيط، والبعد عن وجع الدماغ، لهذا السبب قد نموت مللاً في نهاية المطاف، أو كما أكد صلاح جاهين “بس الأكادة مات بفعل الملل”.

7- الإعتزاز بالنفس

أثناء استضافته بإحدى البرامج، تحدث إبراهيم سعيد عن حبه لديفيد بيكهام وسيرجيو راموس وكونهم أكثر لاعبين يرى نفسه فيهم، سواء من حيث طريقة اللعب أو الإهتمام “بالنيولوك” ليقاطعه المذيع ساخرًا منه “راموس؟ راموس مرة واحدة!”، ليرد إبراهيم سعيد ببساطة “وإيه يعنى راموس”، وبعد أن كان هادئًا ومبتسمًا، يبدأ في التحدث بجدية شديدة، موضحًا أن راموس رغم كونه نجمًا عالميًا لا يجيد إلا في مركز المدافع فقط، بينما هو إبراهيم سعيد -على حد قوله- لعب وأجاد في كل المراكز ما عدا حراسة المرمى، وبينما مقدم البرنامج يبتسم في بلاهة أنهى إبراهيم سعيد هذه المقارنة مع راموس بجملة قالها بمنتهى الفخر والاعتزاز بالنفس “أنا برضه إبراهيم سعيد”، ربما تراه مغرورًا ومعك كل الحق، ولكن من قال أن الغرور ليس مطلوبًا في بعض الأحيان؟ فليس التواضع شيئًا جيدًا في المطلق وعلى طول الخط، ولا الغرور صفة سيئة في كل المواقف، فهذا مطلوب، وذلك أيضا، والأهم هو الاعتزاز بالنفس ومعرفة قدرها جيدًا، ويالها من معرفة شاقة ومجهدة.

8- هادم الاساطير.. مُفرق الجماهير

لأن الأهلي نادي كبير جدًا، يمتلك سطوة ونفوذًا كرويًا، ولديه جماهيرية كاسحة، فمن الطبيعى أن تُنسج حوله مجموعة من الخرافات والأساطير، وهو طقس مصري صميم، فنحن عندما نحب شخصًا أو كيانًا ما، لا بد وأن نحيطه بهالة من القداسة والعظمة، رغم أنه قد يكون عظيمًا بالفعل ولا يحتاج لمثل هذه “الأفورة” والتمجيد المبني على خرافات بعضها مضحك وأغلبها يخاصم المنطق، ويظهر إبراهيم سعيد الإبن الضال للقلعة الحمراء، وكأنه مبعوث القدر لهدم بعض هذه الأساطير، فبعد هروبه من الأهلي عام 2001 وسفره لبليجكا للاحتراف، فوجىء الجميع بالراحل الكبير صالح سليم يعيده بنفسه لصفوف الأهلي بعد فترة قصيرة، في خرق واضح وصريح لخرافة “اللاعب اللى يهرب من الأهلي مستحيل يلبس تيشرته تاني”، وهو موقف علق عليه إبراهيم سعيد بعدها بسنوات طويلة في إحدى البرامج قائلاً بعفوية “مفيش مبادىء في الكورة”، وفي عام 2004 وبعد انتهاء عقده مع الأهلى انتقل سعيد للزمالك بمحض إرادته رافضًا التجديد للأهلى ليهدم خرافات من نوعية “مفيش لاعب يرفض اللعب للأهلي” أو “مفيش لاعب يفضل الزمالك على الأهلي”، وما زال إبراهيم سعيد حتى اليوم -ورغم فشل تجربته البيضاء- يؤكد على كونه زمالكاوي منذ الصغر، ويدخل في صدامات متكررة مع جماهير الأهلي على “تويتر”، ويثير جدلاً جماهيريًا كبيرًا بسبب “تويتاته”، المستفزة بالنسبة للبعض، وهو تصرف قد يكون طائشًا، ولكنه يحمل درسًا مهمًا في ألا تهادن أو تخشى بطش “الأغلبية” لو كان رأيك أو انتمائك مخالفًا لهم، قول كلمتك ورزقك على الله.

9- استمرار التحديات

ربما تتفاجأ إذا علمت أن إبراهيم سعيد لم يعتزل كرة القدم ويودع الملاعب بشكل نهائي حتى هذه اللحظة، فهو ما زال يواصل المسيرة رغم كل ما مر به من فشل وإحباطات، يخوض الآن تجربة غريبة تليق به جدًا، كلاعب ومدرب لنادي جولدي المتواجد حاليًا بالدرجة الثالثة، يدربهم للمرة الثانية، فبعد تركه للفريق عاد إليه مرة أخرى منذ أسابيع قليلة، ما زال هيما كعادته يسبح ضد التيار، محاولا تحقيق شئ ما واستعادة نفسه من جديد، فرغم كل ما فاته، وكل ما أهدره من فرص، وسنوات عمره التي أضاعها على نفسه خارج الملاعب، لم يستسلم للندم، والبكاء على الماضي، فما مضى قد مضى، والقادم دائمًا أهم، لأن الحياة لا تتوقف، والأحلام لا تنتهى.

10- كن أنت

وأنت تسعى دائمًا لكي تتغير للأفضل، احذر من أن تتحول إلى “نسخة”، مجرد تقليد، فأهم ما يميز إبراهيم سعيد على الإطلاق كونه “أصليًا”، حاول بالطبع أن تفوز بكل شئ ولكن الأهم ألا تخسر نفسك، ما يميزك، ما يجعلك أنت، الذي لا شبيه له على وجه الأرض، لا أريد أن يتحول كلامى إلى “تنمية بشرية”، فما أود قوله هو ألا تبالغ في الانبهار بالأشخاص، وألا تصل لدرجة تقديسهم، مهما كانوا عباقرة وعظماء في رأيك، فلا يوجد في هذا العالم من يستحق أن تسلم له عقلك “على بياض”، ليملأه هو بأفكاره، ويفكر بالنيابة عنك، ولذلك إذا كنت قد اقتنعت تمامًا بكل ما كتبته عن إبراهيم سعيد، وبدأت تعتقد أنه ربما يصلح بالفعل كقدوة، أو مثل أعلى في الحياة، يستحق السير على خطاه، فأرجو منك أن تعيد قراءة ما كتبته فى بداية هذا المقال.