الاعتقاد بانتهاء صلاحية نموذج صناعة الصحف التقليدي، الذي يتبناه غالبية ناشري الصحف في الوقت الراهن، حقيقة لم تعد تثير الجدل، فمع انتهاء الاحتكارات الجغرافية التي فرضتها السيطرة على التوزيع في الماضي، لم يعد لدى الصحف ما تقدمه للمعلنين، خصوصا أن الإعلانات التي كانت تتيحها الصحف قديما، صارت تتوافر بشكل أفضل على شبكة الإنترنت.
لا شيء بإمكانه تغيير تلك الحقيقة، سوى ذلك البرهان الذي يؤكد على دور المعلنين في دعم الصحف من أجل الديمقراطية، رغم أن المعلنين لا يهمهم في الأساس إلا ما يفيد “البيزنس” الخاص بهم، وهو الأمر الذي دفع برجال أعمال إلى تملك الصحف، أو على الأقل شراء الأسهم والحصص المساهمة لبعض الصحف، لضمان مصلحتهم السياسية والاقتصادية بوجه خفي، ومسئوليتهم الاجتماعية بوجه معلن.
فما لم يتم سبر أغواره عن الصحف، هو أن ما “انتهت صلاحيته”، ليس نموذجا لبيزنس “صناعة الصحف” وحده، لكنه يمتد إلى كل شيء له علاقة به. تلك الفكرة تستحضر تساؤلا هاما: هل ترى أن معظم الصحف المحلية تستحق الإنقاذ؟ إذا كانت الاجابة بنعم، سيتم الانتقال إلى تساؤل آخر: من سينقذها؟هنا سيظهر المحرك الرئيسي للمشهد ككل؛ “البيزنس والصالح الاقتصادي”.
من المؤكد أن غياب الدعم للأخبار المحلية، ليس لانعدام قيمتها، لكن لأن كل ما له صلة بالصحيفة المحلية بشكلها الحالي، بات بلا قيمة من منظور البيزنس، مما يعني أن مستقبل “الأخبار المحلية”، سيعتمد على “الاشتراكات” في المواقع الإلكترونية، وليس على”الإعلانات”، حيث إن الاشتراكات لن تنقذ الصحف، لكنها فقط قد تنقذ الأخبار المحلية، لذلك ينبغي التمييز بين الاثنين بشكل أسرع، من أجل إدراك أفضل.
فحقيقة الاشتراك لدى الصحافة الإلكترونية، هو التزام مستمر بدفع مقابل مادي للموقع المنوط بإنتاج محتوى خبري معين، سواء كان سنويا أو شهريا، وليس عملية دفع واحدة مقابل قطعة واحدة من المحتوى الذي يجذب الأعين.
الإمداد بدلو مليء بالمياه، يماثل تقديم زجاجة مياه عند إصابة أحدهم بالعطش؛ في الحالة الأولى، على الرغم من كثرة المياه، إلا أنها تحتاج إلى جهد مضاعف لكي تشرب من الدلو، فضلا عن إهدار جزء من المياه، فيما تؤدي زجاجة المياه المهمة بكفاءة أعلى في الحالة الثانية، هذا يتفق مع من يقولون إن الأخبار المحلية ضرورية للديمقراطية، لكن المشكلة تكمن في افتراض أن الدور الرقابي للصحف لا تستطيع أن تقدمه إلا “الصحيفة” نفسها.
“المطابع عفا عليها الزمن”، الثوابت الفكرية بشأن ذلك الأمر تجلت بوضوح لبعض الصحف التي أغلقتها في نهاية الأمر، بينما لا يزال البعض الآخر يتمسك بها، تشبثا بالنذر اليسير من إيرادات الإعلانات المطبوعة.
إدراك توقف آليات الصناعة الصحفية، على ضعف عمل المطابع، يعتبر بمثابة الضباب الذي يحجب الرؤية الصحيحة، فهو وإن كشف المثال الأبرز على عجز الصحف عن التطور، لكنه في الوقت ذاته يمس مراكز التوزيع، وشاحنات التوصيل، وأكشاك الصحف، والبنية التحتية التي تدور حول “الورق”، دون أن يكون لها أي علاقة بالتوزيع الحقيقي للأخبار المحلية.
بغياب النسخ المطبوعة للصحف، ينتفي الحاجة إلى الإخراج الفني، والتصوير بالتقنيات عالية الجودة، والمكاتب المخصصة لجمع المحتوى انتظارا لموعد الطباعة، فضلا عن تضاؤل الحاجة إلى المحررين؛ فعند طباعة النص، كانت النسخة “دائمة”، ما يرفع تكلفة الخطأ ويبرر وجود قوة تحريرية للإشراف عليها، تقترب في عددها من عدد الصحفيين.
في الاتجاه المعاكس للنسخ المطبوعة، ستكون القصص الرقمية التي يسهل تعديلها وتحديثها “بعد النشر”، إضافة إلى أنها تمتاز بالتفاعلية، حيث يستطيع القراء إرسال آرائهم فورا، وبالتالي قياس رجع الصدى وردود الأفعال حول الأخبار سريعا.
إنتاج الأخبار المحلية لا يتطلب أكثر من نصوص وصور وربما بعض لقطات الفيديو، مما يزيد من كفاءة “المعرفة الجمعية” عشرات المرات لدى القارئ، أكثر من مجهود وافر لمحرري الصحيفة المطبوعة.
كما أن الرؤية بانعدام الحاجة لبنية تحتية رقمية عالية التكلفة، يرجع إلى أن الجزء المتعلق بالبنية التحتية بأكمله – والذي يشكل نحو ثلثي تكلفة الصحيفة وربما أكثر بعد إضافة أجور المحررين- ليس له علاقة بالإنتاج المستدام للأخبار المحلية.
تجنب التغافل عن واقعية الأرقام الفلكية التي تساهم في تدشين هيكل الصناعة الصحفية، لم يعد بالشيء اليسير، خصوصا إذا كانت تفتقد لمقومات نموذج “البيزنس”، الذي يمكنه البقاء والصمود وسط تقلبات المناخ الاقتصادي والتكنولوجي والسياسي.
لذلك لا مفر من الحفاظ على الوقاية من أعراض الدهشة والتعجب، إذا ما ظلت معاناة الصحف المحلية في المستقبل، لأنها ستعد من الشواهد التي تستدعي فتح الآفاق لنظرتك التخيلية لصناعة المهنة، فيما هو قادم، لتتأكد أن تطور الصناعة الصحفية أصبح مرهونا وقتها بالمال فقط.