استمَعْتُ قبل شهور لمزيج غنائي قدَّمَتْه فرقة «أبو شعر» للإنشاد الصوفي، جمعَتْ فيه بين روعتين: «القلب يعشق كل جميل» و«مولاي إني ببابك». ورغم سطوة وتميُّز كل أغنية بمفردها، فإن المزج منحهما قوةً وتفرُّدًا.
زاد من ارتباطي وتعلُّقِي بهما، وكلتاهما من الأغاني الدينية المتميزة، مفاجأةَ سفري إلى رحلة الحج، التي لم تكن على البال أو في الحسبان، وقد احتشدَتْ ذكريات الأيام القليلة السابقة للسفر الممتلئة بالأحداث، ووجدتني أردِّد كلمات الأغنية (المزيج)، ودموعي تتساقط وأنا أسترجعها أثناء جلوسي في رحاب الحبيب المصطفى، وفي روضته المشرَّفَة بمسجده النبوي في طيبة الطيبة، المدينة المنورة، ثم عند وقوفي على باب الله عند بيته الحرام في مكة المكرمة.. وبين حج وعمرة كانت رحلتي المقدسة، صاحبني صوت ثومة وهي تشدو بداخلي: «دعاني لبيته لحد باب بيته.. واما تجلى لي بالدمع ناجيته»، من كلمات القدير بيرم التونسي ولحن شيخ الملحنين رياض السنباطي، ويتداخل معها صوت الشيخ سيد النقشبندي: «مولاي إني ببابك قد بسطت يدي.. من لي ألوذ به إلاك يا سندي»، بلحن العبقري الراحل بليغ حمدي وكلمات الشاعر القدير عبد الفتاح مصطفى.
وقفتُ أمام قبر المصطفى عليه الصلاة والسلام، يحيط بي آلاف من المحبِّين جاءوا من كل بقاع الأرض، ومن كل فجٍّ عميق.. جاءوا للحبيب يبحثون عن الحبِّ المفقودِ والأمَلِ المنشود، يُصلُّون لله ويصلون على النبي، في رحاب سيد الخلق أجمعين، هنا الحبيب الذي تتمنى أن تبقى ما بَقِيَ من عمرك إلى جواره.. تستمدُّ منه المحبة التي كانت سرَّ عبقريته ومنطلَقَ رسالَتِه.
السلام عليك يا سيدي يا رسول الله.. السلام عليك يا سيدي يا حبيب الله.. تتساقَطُ الدموع ويقشعرُّ البدن، عندما نتذكر أنه كان يومًا يجلس في المكان نفسِهِ بجسده الطاهر. دموع الفَرَح ملمح مشترك عند أغلب من استطاعوا الوصول إلى هذه البقعة الشريفة الواقعة بين بيت الرسول ومنبره، التي قال عنها المصطفى إنها «روضةٌ من رِيَاضِ الجنَّة»، أشعر بكل مَن حولي يستشعرون وجودَهُم بقربه.. يبكون وهم يتلمَّسون أثره، ويستنشقون عبير وجودِه في محيطِهِمْ، يسترجعون ما نَزَل عليه من رسالة الخير، يجددون العهد له بأنهم مسلمون، وبأن الإسلام دين الحرية والمحبة، وأن المسلم هو من خَفَق قلبُه بالإيمان فأصبح إنسانًا.
وتشاركنا كوكب الشرق قائلة: «جينا على روضة هَلَّا من الجنة.. فيها الأحبة تنول كل اللي تتمنى»، قبل أن تختم: «يا ريت حبايبنا ينولوا ما نولنا.. يا رب تُوعِدْهم يارب.. يا رب تقبلنا».
كانت هذه المدينة المنورة بقبرِ الصادق الأمين.. وبعدها اتجهنا إلى مكة حيثُ الحجُّ بكل مناسِكِه العظيمة ومشقَّتِهِ الكبيرة وثوابه الأعظم.
ولأنني والحمد لله سبق وشرُفْت بالحج، فأنا مدرك للمقولة المتداولة «الحجُّ مشقَّة»، لكنها هذا العام تضاعفت بسبب غباء البشر وجشَعِهم في تحويله إلى متاجرة بالله، ورغم وصولي إلى «باب الحرم» في قمة الإعياء والتعب، فإنه بمجرد أن وقعَتْ عيني على الكعبة المشرفة حدث بداخلي زلزال فارتجفتُ، واهتزَّ وجداني وكأنها المرة الأولى التي أشاهد فيها الكعبة، لقد طال الغياب هذه المرة، فبعدت عنها أكثر من خمس سنوات، تبدل فيها محيط المكان تحت طائلة مشروع التوسعة، لكن بقي «البيت العتيق» حاضرًا بجلالِه بهيًّا في جماله، وكأنه ظِلُّ الله على الأرض، وبيته الكبير الذي يحتضن ملايين جاءوا إلى زيارته متبتلين، وهنا جلجل صوت النقشبندي: «مولاي إني ببابك»، فخرَجَتْ من قلبي دعوتي الأولى وتدفق بعدها فيض الدعاء، والبكاء.. غسلتني الدموع والاستغفار وبدأتُ التسليمَ الكاملَ لربِّ هذا البيت، خشوعًا وصدقًا لعزته وعظمته.. الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا.
أكرمني المولى أثناء طوافي بملامسة جدران الكعبة، حتى أنهيت أشواطي السبعة فأمسكت بباب الملتزم، أستغفره وأتوب إليه وأتوسل إليه أن لا يكون هذا آخر عهدي ببيته، وأن لا يردني إلي بلادي خائبًا غير مستجاب الدعاء.
ثم كان يوم السعد، يوم عرفة.. وزاد الابتلاء والمشقَّة وجاهدنا ليكون يومًا جميلًا وكان سلاحنا ذِكر الله، وحشدتُ كل الدعاء لنفسي وأهلي وأصدقائي، وكل من وَسَّطَني في دعاء، راجيًا من المولى الإجابة.
وبدأت بعدها جولة أصعب من المشقة، من المزدلفة إلى منى، ومن المبيت إلى الجمرات و طواف الإفاضة، مضت أيام التشريق الثلاثة على خير رغم ما أصابني فيها من مرض وما عانيتُه من آلام لم يخففها إلا صحبة الحج الطيبة التي رزقني الله بها.
ثم كان الوداع في مكة التي أطلَّت على العالم بـ«لقطة» رائعة، شكَّلَتْها مظلات الحجيج بألوانها الجميلة المبهجة، التي حمَتْهم من لهيب شمس حارقة، فرَسَمَتْ (دون قصد) صورة كرنفالية تناقلتها وسائل الإعلام العربية والدولية، عبرت عن فرحة حجاج بيت الله الحرام بإنجازهم الطيب ورحلتهم الموفقة وحجِّهم المغفور بإذن الله.