حسين السيد
في عام 1980 كان الأديب الكبير خيري شلبي على موعد مع جائزة الدولة التشجيعية عن روايته “الوتد”؛ كتب شلبي الرواية في ظل ظرف سياسي دقيق، كانت مصر تتحول خلاله إلى بلد آخر غير الذي يعرفه، وكان المثقفون غاضبين من سياسات الانفتاح الاقتصادي والتغيرات التي تعصف بالمجتمع المصري.
استلهم شلبي الأحداث من قريته “شماس عمير”، وقدم بورتريهات بديعة للقرية المصرية، ولم يسقط في فخ المباشرة، فقدم حكايته على مستويين سرديين؛ الأول بسيط يروي قصة أسرة مصرية ريفية، والثاني محمل بالرموز التي يمكن أن ترمز لها هذه الأسرة، فجعل من فاطمة تعلبة -الأم- رمزًا لمصر التي تجمع أولادها على اختلاف أدوارهم وتوجهاتهم في الحياة، وقسم أدوار الأبناء بين مهن مختلفة، من زراعة ورعي وتجارة، وجعل الزعامة للحاج درويش ابن فاطمة تعلبة البكري، وكبير عائلة العكايشة، وأكثرهم تمسكًا بتقاليد العائلة ومحافظة عليها بعد والدته.
وحين تحولت الرواية عام 1996 لمسلسل شهير من بطولة هدى سلطان ويوسف شعبان، كانت مصر تُتم عملية التحول نحو السياسات الرأسمالية التي كان شلبي يخشاها، وكانت الرموز التي بنيت عليها الرواية الأصلية غائبة عن المشهد، فالسادات مضى على اغتياله -حينها- 15 عامًا كاملة، وعبد الناصر ابن مصر الكبير الذي يوقره دائمًا خيري شلبي، كان قد مات منذ 26 عامًا. غياب ساهم في طمس معالم رمزية الرواية، وأعطى الصدارة للمستوى السردي الأول وللقصة البسيطة، كي تصل إلى الناس بشكل أكثر سلاسة، الأمر الذي حاول شلبي تجنبه في الحلقة الأخيرة من المسلسل حين عمد إلى استخدام رموز صريحة؛ تجاوز خيري شلبي في هذه الحلقة البناء الكلاسيكي للرواية، المعتمد على حل الأزمة بالوصول إلى خط النهاية، ولجأ إلى بناء تصاعدي تتفجر فيه الأزمة مع الوصول للحلقة الأخيرة.
لم تكن الأزمة في نظر شلبي، في تحكم فاطمة تعلبة الكبير في أبنائها، أو في قيادتها لهم ليحصلوا على مزيد من الأرض والنفوذ داخل البلد، إنما حدثت الأزمة حين جاءت “عزيزة” زوجة ابنها من “البندر”، حين بدأت في نشر قيم “البندر” بين أبناء الأسرة الواحدة، وحين بدأ الحديث للمرة الأولى عن استخدام النقود لتبادل المنافع بين الإخوة في الحلقة الأخيرة.
استخدم شلبي -وهو كاتب حوار المسلسل- عبارات صريحة تعبر عن موقفه؛ مثل التحذير من انهيار التكافل على لسان الممثل أحمد سلامة، والحديث عن “الشغلانات الكبيرة والشغلانات الصغيرة”، والغنى والفقر بين الإخوة، مع تصاعد درامي حاد يهدد فيه عبد العزيز ابن فاطمة تعلبة بترك الدار، ومع هذه الصراعات المفاجئة بين الإخوة، والتي أحدثها ظهور مصطلحات رأسمالية تهدم المجتمع التشاركي الذي بنته فاطمة، تسقط فاطمة تعلبة، وتدخل في غيبوبة طويلة، لا تفيق منها إلا لدقائق متقطعة، توصي خلالها الأبناء بالاتحاد، والحفاظ على العلاقة بينهم.
ورغم أن فاطمة تعلبة في المسلسل تموت بعد وفاة ابنها الأكبر الحاج درويش بأسبوع، وينفرط من بعدها عقد العائلة، إلا أن النص الأصلي للرواية لم يحمل نبأ وفاتها، حيث تنتهي الأحداث بوفاة الحاج درويش أثناء غيبوبة والدته، دون أن تضع الرواية نهاية لفاطمة تعلبة، وإذا كان درويش يمثل في الرواية جمال عبد الناصر الذي يموت ومصر في غيبوبة، تعاني خلالها من آثار الهزيمة في سيناء، فإن شلبي يترك روايته مفتوحة النهاية ويؤجل إعلان وفاة فاطمة تعلبة، رغم تأكيدات الأطباء بأن الأمر مسألة وقت؛ يتمسك شلبي في النص الأصلي للرواية بالأمل، الذي تحدث عنه توفيق الحكيم في أكتوبر عام 1973، حين قال “إن مصر هي دائمًا مصر، تحسبها الدنيا قد ماتت وروحها لا تموت أبدًا، وإن هجعت قليلًا، فإن لها هبة ثم زمجرة ثم قياما”.
ولا يمكن القطع بالسبب الذي جعل شلبي يتجاوز نصه الأصلي ويعلن وفاة فاطمة تعلبة عام 1996، هل كان الأمر لسبب درامي يتعلق برغبة المشاهدين في معرفة مصيرها النهائي؟، الرغبة التي وصلت مداها حين طلبت سوزان مبارك – بحسب المخرج أحمد النحاس- من التلفزيون المصري تأجيل عرض الحلقة الأخيرة من مسلسل “الوتد”، لارتباطها بحفل في نفس ميعاد عرض الحلقة مع عدم رغبتها في تفويتها؟، أم كان اليأس قد تسرب إلى قلب الرجل للدرجة التي تدفعه لتغيير النص الأصلي ليشمل وفاة الحاجة فاطمة؟ نظرية تجد ما يعززها إذا رجعنا إلى مقال الراحل الكبير، لـ “السفير” اللبنانية عقب ثورة يناير، حين كتب “عادت لمصر روحها”، وسواء كان شلبي قد عدل روايته في المسلسل لأسباب تتعلق بسير الدراما، أو لأسباب تتعلق بيأسه الشخصي، فإنه في كل الأحوال قد ترك لنا نصًا أدبيًا بديعًا، ودراما تلفزيونية أسرت قلوب المصريين، وطرحت أسئلة حول مدى تأثر السيدة الأولى في مصر لثلاثة عقود بشخصية فاطمة تعلبة، وهل كانت تريد أن تقود عائلتها مثلما فعلت الحاجة فاطمة؟ وأسئلة أهم حول مصر وفاطمة تعلبة؛ هل أفاقت فاطمة تعلبة من غيبوبتها، أم أن الغيبوبة ستطول؟َ!