للصدق هو ليس مطربي المفضل، وزمنه لا يمثلني، فلقد توقفت عند صوت فيروز منذ زمن، ولم أكمل، لكن اليوم، ومع ظهور ألبومه الجديد “معدي الناس” على اليوتيوب، وحُمى الاستقبال والحفاوة، عُدت للبحث في مسألة “عمرو دياب”، وخاصة أن اسم الألبوم يبدو لي كرسالة أكبر من كونه عنوانا قد أعجبه، فـ “معدي” تعني أن الرجل قد مضى وتجاوز، والناس على الثبات، أو يا ربما لا يملكون إيقاع الحركة السريع الذي يتحرك به غالبا فتأخروا عن مواكبته.
ولأن الشيطان في التفاصيل، أزعم أن هذا السجال المجاني مع “شيرين” وآرائها الصادمة نوعا قد أثرت في اختيار العنوان، حتى لو أنكر البعض، فإن هاجس الزمن مؤكد يؤثر على لاوعي الرجل وحساسيته حيال هذه التقاطعات مع وجوده، وأحسب أن من أسسوا لكونه الهضبة كانوا يحتاطون لهكذا تطاولات قد تأتي في المستقبل، أو من الممكن أن يكون الرجل قد حاول التأكيد على كونه نجم هذه الحقبة، وعلى الجانب الآخر فإن (الناس) الذين تعداهم أحسبهم قد ماتوا إكلينيكيا، ولا يمكن قياس حركته على معايير وجودهم الآن، لأن سوق إنتاج الغناء في مصر قد مات بالضرورة، والمطربون الشبان الذين يتحركون في دوائر أقل ضغطا وإن لم تخل من زحام، قد استفادوا يقينا من السوشيال ميديا؛ لأن ضغوط النجومية والحضور ليست بنفس ضغوطها في عالم الكبار، والتواجد والحضور ليس بهذه الكلفة.
في الحقيقة أن شواهد نجومية “عمرو” لا يمكن أن ينكرها أحد، لكن على ضوء الألبوم، وما يطرحه من كلمات وموسيقى وتوزيع، وطبيعة أداء “عمرو” نفسها.. أزعم أن “معدي” ليست في محلها، فنحن أمام حالة اجترار منهجي لموضوعات الأغاني والأفكار، وأحيانا سياقات لفظية بعينها، وقوالب موسيقية -ربما- لم تتجاوز مرحلة (نور العين) وما سبقها وما تلاها، من موسيقى تجمدت؛ حتى وصلت لما يمكن أن نسميه “تيمات” عمرو دياب. الأمر الذي أنعكس بدوره لثبات كيمياء الأداء؛ من عُرب وحليات وتريلات. باتت من المعلوم من أداء عمرو بالضرورة. وللصدق أندهش من ثبات الرجل وتوقفه عند هذا الطرح الفني، فتجربة غنائية تقترب من الثلاثين سنة متى تجرب؟ إلا إذا كانت الهضبة هي إشارة للجمود والمقاومة لكل ما هو جديد.
الغريب أن فريق العمل الذي يتعامل مع الهضبة قد تخلى طوعا عن مفهوم الإبداع والتجديد حتى تحولوا لمجرد”ترزية” يدركون ذوق”عمرو”، أو يا ربما حدث تواطؤ كي تخرج الأغنية إما من عباءة السيد (الكرد) أو تنويعات النهاوند. أو من خلال تيمة موسيقية منتحلة بالكلية من تجربة غربية سابقة، كذلك فإن كلمات أغانيه قد تبدو لي كمعالجات شعرية مختلفة لفكرة واحدة أو تكاد، كتابة نمطية ملفقة غالبا ومجانية إلى درجة رغم حضور قامات شعرية مهمة في هذا الفن تتحرك معه وحوله، وأحيانا كلمات تأتي في مرحلة تالية لموسيقى منحوتة من هنا أو هناك، وليس على الأغلب كلمات دُفعت لملحن ليشتغل عليها، وهو على كل حال سمة لهذه الأيام.
إن جمود الفنان عند أطروحة معينة، ذات معايير على درجة من الثبات، لا يعني وحسب عدم القدرة على إنتاج ما هو مختلف، أو انعدام مفهوم الجسارة كي ينتج فنا متجاوزاً، وإنما تؤسس شعورا يقترب من كونه استبدادا، وكأننا حيال سلطة قهر أسست له النجومية الممتدة عبر الزمن، تجعلنا نقبل طوعا أو كرها ما تقدمه دون مناقشة، أو حتى إبداء أي نوع من الرفض. هنالك يـُقدم الفن استنادا للتاريخ، وليس لأصالة المطروح وجديته. لذلك أحسب أن تجربة عمرو دياب الفنية ستنتهي بالصدفة وبشكل قدري صادم، عندما تتشكل ذائقة تستطيع أن تتجاوزه على اعتبار غنائه قد صار شيئا من الماضي، غناء استطاع أن يستفز شعورنا (رغم المحبة) بالملل. يومها ستُعلن بوضوح أسباب زوالها، لأن الرجل لم يتسق مع زمنه، وتوقف عند مستوى معين من الغناء بتقنيات وكلمات باتت من أساطير الأولين.