السؤال لا يحمل أيَّ اعتراض على إرادة الله وقدره، فالموت يُدرِكنا أينما نكُنْ وِفقَ مشيئة المولى عزَّ وجل، لكن سؤالي هنا محاولةٌ لفَهْم ظاهرة تتكرر كل عام، دون أن يتوقف أمامها أحد بالتحليل أو بتوفير أرقام واضحة عن نسبة وفيات الحجاج المصريين مقارنةً بحجاج الدول الأخرى، أو تفسير الأسباب المؤدية للوفاة كي يتم تجنُّبُها في الأعوام المقبلة.
وقد وصل عدد الوفيات بين الحجاج المصريين (حتى كتابة هذه الأسطر) إلى 81 حاجًّا، بينهم كبار في السن، لكنهم ليسوا أغلبيةً، ومن أبرز أسباب الوفاة الإجهاد الحراري وضربات الشمس، لكنها ليست السبب الوحيد، فهناك أسباب أخرى كثيرة، بعضها مثلًا مرتبط بتوقف عضلة القلب أو انسداد في الرئتين.
أنقل لكم ما قرأتُه وسمِعتُه (ولا أدري مدى دقَّتِه الطبية)، بعد عودتي من الحج مصابًا بنزلة برد مرعبة لم تفارِق جسدي طوالَ أسبوع كامل، رغم كل ما تناولتُه من أدوية ومضادات حيوية وخوافض حرارة ومسكنات وسوائل وليمون بالعسل، في كل الأحوال أحمد الله أني عدتُ حيًّا ولم أنضم لقائمة وفيات الحجيج المصريين.
بحثتُ بأكثر من وسيلة لأصلَ لأرقامٍ دقيقة تحدِّد عدد وفيات الحجاج من جنسيات أخرى (غير المصريين)، لكنني لم أصادِفْ سوى 3 حجاج إيرانيين فقط، وذلك رغم أننا في كل صلاة في المسجدين الحرام والنبوي كنا نصلي صلاة الميت، بما يعني وجود وفياتٍ كثيرة، ربما يكونون من أهل المدينتين؛ مكة أو المدينة، وربما كان منهم مصريون ماتوا أثناء الحج، وربما من دول أخرى لا تُعلِن بشكل رسمي أعداد موتاها في الحج حرصًا على العلاقة الطيبة مع المملكة، التي تستضيف بكرم (حاتميٍّ) آلاف الحجاج منهم ومن غيرهم من دول إسلامية فقيرة في أفريقيا وآسيا.
في موسم الحج هذا العام كانت السعودية أكثر حرصًا على أن يمرَّ الموسم بسلام، ولهذا أسباب سياسية ربما نرجع لها في مقال آخر، فلم تصِلْ إلى سمعي أيَّة شكوى إلا بعض ما شاهدتُه بعيني في منى من سوء أحوال واضح لأحوال غالبية حجاج الخارج، مقارنةً بما أعلمه عن جودة مخيمات منى لحجاج الداخل (وهو عِلْم عن تجربتَيْنِ سابقتَيْنِ)، وكان أكثر الشكائين من المصريين، فقد افترش بعض الحجاج الطرقات يتسولون الطعام من مخيمات الحج السياحي، بعد أن تركتهم شركاتهم ومطوِّفوهم بلا مأوى، كما اتفقت معظم وفود الحج السياحي على الشكوى من خداع شركات السياحة المصرية لهم، رغم ما دفعوه من مبالغ تراوحت بين 100 ألف و150 ألف جنيه، كتكلفة غير مسبوقة للحج، وكان من بين شروطها المكوث بمنى وعرفة في مخيماتٍ تصلح للحياة وتُناسِبُ الدرجة السياحيةَ المتَّفَقَ عليها، وبالطبع لم يحدُثْ ذلك، وهو أمر يتكرر كل عام، ويرافقه صَمْت حكومي مريب، وغياب تامّ لأي رقيب.
ربما يكون هناك رابط مباشر بين ما يشوب عملية تنظيم الحج (والعمرة أيضًا) في مصر من فساد وعشوائية ومتاجرة من جهةٍ، وارتفاع عدد الوفيات بين الحجاج المصريين من جهة أخرى، وربما يصحُّ أن نضيف إلى ذلك سببًا آخر، وهو استسلام المصريين للاستخدام المغلوط للآية الكريمة: «لا فسوق ولا جدال في الحج»، التي تمنَعُهُم من محاسبة تقصير الدولة المضيفة، أو الشركات المنظِّمة، فيتحملون المشقة الرهيبة صامتين، حتى تنوء كواهلهم، فيسقطوا تحت وطأة التلوث والإجهاد والحرارة وتقدُّمِ العمر، موتى.. قد يحسدهم البعض للأسف لوفاتهم في أرض مقدسة وأيام «مفترجة»، وهم لا يدركون أنهم ضحايا الإهمال، وليسوا شهداء جهاد في سبيل الله.