(2)
لكن لماذا يتمُّ تهميش السينما التسجيليَّة؟
يبدو أن الفيلم التسجيليّ (أصل السينما وجوهرها)، بشكل من الأشكال، يلعب- أكثر من غيره- دورًا في التنوير، وفي المعرفة، والتعبير عن هموم الناس، وبيان همومهم المجتمعيَّة، بل هو “ترمومتر” للحرية، وكل هذا لا تريده السلطة، بل هي تعمل ضده من الأساس، عبر سنوات متراكمة من الفساد التعليمي، وإفساد الذوق العام، وهبوط الذوق الفني، بالتوازي مع ذلك، هناك إهمالٌ مُتعمَّدٌ للتراث السينمائي لمصر، سيصيبك الذهول، ويقتلك عندما تقرأ موضوع الزميل محمد حافظ، وغيره حول ضياع ذلك التراث السينمائيّ، الذي لا بد أن يقف في خلفية أي مشهد جديد لصناعة السينما الآن.
كما أن معظم صُنَّاع الأفلام للأسف يميلون إلى العمل وفق مبدأ “الشو الإعلامي”، فيتَّجهون إلى الأفلام الروائية التجارية، أو على الأقل يتركون الفيلم التسجيليَّ في أول نظرةٍ تأتي لهم من السوق المتوحِّشة، التي لا ترى في السينما إلا وسيلة للتسلية، وبالتالي لا تدعم أيَّ فيلم تسجيلي، الذي يبدو أنه الفيلم الأصلح لإطلاق صفة “المستقل” عليه.
يقف خلف كلِّ هذا، المناخ العام في مصر الآن، الخانق لأيّ تجربةٍ إبداعيَّةٍ، خاصةً إذا كان الإبداع هنا يرتبط بعوامل أخرى، منها البحث والدراسة لموضوع الفيلم التسجيليّ، وحرية الحركة في الشارع دون مضايقاتٍ. ورغم جماليَّات الفيلم التسجيليّ إلا أنه يرتبط بشكلٍ أساسيّ بالبحث والتنقيب لموضوع الفيلم، ما جعل البعض يظن أن السينما الروائية هي تحقيق الجمال، ثم تأتي في المرتبة الثانية السينما التسجيلية، وهو تصور قاتل.
المخرجة الكبيرة نادية كامل في حوارنا معها في هذا العدد، تقول: “السينما التسجيلية لا تُعرَض في التليفزيون الرسمي، وهذا دليلٌ على أن الأمر له علاقة بالسيطرة على الإعلام، ليس فقط بالتجارة والربح. هناك طبعًا سببٌ تجاريٌّ أن الأفلام التجارية قوامها السينما الروائية، الصناعة تتجه للروائي عندما تهدف إلى الربح، فيصبح مفهومًا إنفاق أموال طائلة، بغرض أن تأتي بالناس لتشاهد، إنفاق على النجوم والدعاية وخلافه. الجانب المادي التجاري هو ما يجعل السينما الروائية أكثر غزارة من التسجيلية أصلًا. ولكن الأفلام التسجيلية التي أثارت الانتباه لماذا لم تجد مساحةً للعرض في التليفزيون؟ ثمة حالة تعمية، نستطيع القول إن السينما التسجيلية تتعرض لمنع، ولو بقرارٍ غير مكتوب، وما يُعرَض منها في النهاية ليس له علاقة بالاشتباك مع الواقع، ممكن تكون سينما وصفية من أجل الدعاية السياحيَّة مثلًا، أو مطلوبة بالطلب من شركات كبيرة. شكل من أشكال الإعلانات الطويلة”.
يُكمِل المشهد المخرج الكبير هاشم النحاس، حيث يجيب في حواره مع مجلة الفيلم عن سؤال كيف ترى حاضر السينما التسجيلية في مصر الآن؟ فيقول: “للأسف، لا أشعر بالاطمئنان إزاء الحاضر؛ لأنه لا توجد مؤسسة أو جهاز يتبنَّى السينما التسجيلية في مصر. ولكن ما يطمئنني هو وجود المبدعين من الشباب في هذا المجال، وهم يشكلون موجةً غير مسبوقة في تاريخ السينما المصرية، وصنعوا أفلامًا جيدة نالت جوائز وتقديرًا بالداخل والخارج، ولكن الجمهور المصري لا يشاهد أفلامهم، وهذه مهمة ووظيفة المركز القومي للسينما الذي يُفتَرَض أن يقوم بدورٍ مشابهٍ لدور مركز السينما في فرنسا، لكن في الحقيقة هو لا يشبهه إلا في الاسم فقط، ومن دون دعم الدولة للفيلم التسجيليّ، من الصعب أن تنشأ حركةٌ تسجيليةٌ قويةٌ. أنا مع دعم السينما وليس تمويلها، فالتمويل الكامل مفسدة للممول نفسه “الحكومة” ومفسدة للمخرج أيضًا، أما الدعم فإنه يُشعِر المخرج بالمسئولية، فيهتم بفيلمه ويسعى لعرضه في المهرجانات، ولا يترك الأمر في أيدي الموظفين الذين لا يستطيعون استثمار هذه الثروة، ويحولوها إلى علب يصيبها الصدأ في المخازن”.
قالت بوضوح: “أسسنا المدرسة؛ لأننا نريد طرح مساحاتٍ لا بناء هياكل، لا أؤسِّس لهيكل له مقرّ وبه معدات وأدوات وله مقرَّرات ثم نبدأ العملية التعليمية، بالعكس نعمل بما هو متاح، نجلس لنعمل سويًّا بما هو موجود لنُخرِج شيئًا ما بداخلنا نبلوره، وما ينقصنا في الطريق نسعى لجلبه، ومن ثم المدرسة تكبر على قدر احتياجاتها”.
(4)
ولذلك تنشغل المجلة برفع الذوق الفني قدر المستطاع، وبتتبُّع تجارب الشعوب في إنتاج أفلام تعبر عن هموم الناس، وتهتم بالسينما التي تنشد التغيير والوعي والتنوير، خاصةً بعد هيمنة متوحشة للسينما التجارية، فيما بقيت السينما الجادة (ذات الدور التنويري) تكافح لإيجاد موطئ قدم في سوق السينما المصرية، وصار أمامها أن تكتفي بالاعتبار والتقدير في المهرجانات والعروض الثقافية، الأمر الذي يعني الاتجاه نحو الضمور، مثل البخار الذي يظهر قليلًا ثم يضمحلّ. وهذه إشكاليةٌ كبرى نحاول في مجلة الفيلم لفت نظر صناع الأفلام إليها، عبر الكتّاب المشاركين معنا في المجلة، خاصةً أن المجلة الآن تستكتب بعض الأكاديميين المتخصصين في السينما، فيقدمون ما يعرف بـ”الصحافة البحثية” الجادة، خاصة في هذا العدد والذي نخصصه للسينما التسجيلية في مصر، الآتي بعد عدد خصصناه عن صناعة السينما المصرية وكأنه ملف واحد، ورغم أن هذا العدد هو الأكبر حجماً في أعداد المجلة الإثنى عشر إلا أننا لم نستطع إعطاء كل الأسماء البارزة في عالم السينما التسجيلة في مصر حقها، أمثال يحيى حقي، وحسن فؤاد، وسميحة الغنيمي، وعلي الغزولي .. وغيرهم، وربما نخصص عدداً آخر لإستكمال ما بدأته مجلة “الفيلم” من البحث والتنقيب للقضايا المهمة في السينما المصرية المسكوت عنها والمهمشة إعلاميا لنعيد قرائتها مرة أخرى ووضعها للجمهور العام، وصناع الأفلام في إطارها التاريخي ومكانتها التي تليق بها.
(5)
تحيَّةٌ واجبةٌ