سامح سامي يكتب: عن السينما التسجيلية في مصر.. تهميش متعمد للجمال

تثير السينما التسجيليةُ في مصرعدَّةَ أسئلة، منها ما هو مجانيّ، ومنها ما هو مدفوع وثمين. المجانيّ يأتي في شكل جدلٍ بيزنطيّ حول التسمية “تسجيلي أم وثائقي؟”، تحدَّثْ مثلًا عن “السينما التسجيلية” في أي مكانٍ بين الأصدقاء، أو في ندوةٍ، أو في حفلٍ؛ فبدلًا من الحديث عن جمالياتها أو صناعتها أو معوِّقات وجودها أو البحث في تاريخها، تجد كلامًا كله “جدل بيزنطي” يتوقَّف “فقط” عند فروق التسمية. لذلك دعونا من الجدل البيزنطيّ حول تسميات الفيلم التسجيلي، ولنناقش الأسئلة المطروحة (ما هو ثمين) حول السينما التسجيلية في مصر، وما تطرحه من مناقشاتٍ حول إتاحة المساحة الملائمة لها وجمالياتها، فالأفلام التسجيلية، رغم أهميتها الضرورية، لا نشاهدها في دور العرض أو على شاشات التليفزيون، وكأن هناك تهميشًا مقصودًا، وأمرًا علويًّا بعدم المعرفة والحرية بحجة وهمية- على رأي صديقي حسن شعراوي-أن الجمهور “عاوز كده”، فهو يرى أنها مقولة كاذبة، يطلقها البعض كفخ أمام السينما التي نريدها.
 
والسينما التي نريدها، تحققت من قبل في مصر، إلا أن هناك قطيعةً وقعت، وضمورًا حدث. تلك السينما تحققت على يد مخرجين كبار، منهم المخرج محمد بيومي صاحب التجربة الملهمة في العشرينات من القرن الماضي (هناك عدة موضوعات في العدد توضح دوره)، عندما حوَّل أفكارَه السينمائيَّةَ لأرض الواقع “كاميرا وفكرة”، وبعده- نحن نتحدث عن سينما تتجاوز الحدود الجغرافية الضيّقة- يأتي اسم “دزيجا فيرتوف” صاحب فهم “السينما عين”، التي ألهمت تيارًا سينمائيًّا بأكمله “السينما الفرنسية الجديدة”، والتي أعادت اكتشاف “فيرتوف” للجمهور العام، الأمر الذي جعل “جان لوك جودار” يؤسس لجماعةٍ سينمائيةٍ نوعيةٍ، وهي جماعة “دزيجا فيرتوف السينمائية” التي دعت إليها الحاجة عام 1968 وقت ثورة  الشباب، وتحولات المجتمع الطامح للتغيير والحرية، والتجربة البديعة لما يُسمَّى بـ”سينما الحقيقة”، التي يقدِّمها على صفحات هذا العدد المترجِمُ المبدع لطفي السيد منصور تحت عنوان “مانفستو السينما عين”، مفادها أن: “السينما الدرامية هي أفيون الشعوب، ولتسقط سيناريوهات قصص البورجوازية، ولتحيا الحياة في ذاتها”.‏
 
القصد هو البعد عن جدل التسميات، والتوقُّف قليلًا عن الكلام المُستَهلَك، لنتحرك نحو التجريب، نحو تشكيل وعي الناس. السينما فعلٌ تنويريٌّ، ولا يجب خداعنا بأنَّ الدورَ التنويري للسينما يُبعِدُها عن الجمال؛ إذ أن الاهتمام بالتفاصيل التقنية عالية الجودة والإنتاج الضخم هو فخ منصوب أمام الجميع حتى لا يشاركوا بأنفسهم في صناعة السينما، والاستمتاع بسحرها.

(2)

لكن لماذا يتمُّ تهميش السينما التسجيليَّة؟

 

يبدو أن الفيلم التسجيليّ (أصل السينما وجوهرها)، بشكل من الأشكال، يلعب- أكثر من غيره- دورًا في التنوير، وفي المعرفة، والتعبير عن هموم الناس، وبيان همومهم المجتمعيَّة، بل هو “ترمومتر” للحرية، وكل هذا لا تريده السلطة، بل هي تعمل ضده من الأساس، عبر سنوات متراكمة من الفساد التعليمي، وإفساد الذوق العام، وهبوط الذوق الفني، بالتوازي مع ذلك، هناك إهمالٌ مُتعمَّدٌ للتراث السينمائي لمصر، سيصيبك الذهول، ويقتلك عندما تقرأ موضوع الزميل محمد حافظ، وغيره حول ضياع ذلك التراث السينمائيّ، الذي لا بد أن يقف في خلفية أي مشهد جديد لصناعة السينما الآن.

كما أن معظم صُنَّاع الأفلام للأسف يميلون إلى العمل وفق مبدأ “الشو الإعلامي”، فيتَّجهون إلى الأفلام الروائية التجارية، أو على الأقل يتركون الفيلم التسجيليَّ في أول نظرةٍ تأتي لهم من السوق المتوحِّشة، التي لا ترى في السينما إلا وسيلة للتسلية، وبالتالي لا تدعم أيَّ فيلم تسجيلي، الذي يبدو أنه الفيلم الأصلح لإطلاق صفة “المستقل” عليه.

يقف خلف كلِّ هذا، المناخ العام في مصر الآن، الخانق لأيّ تجربةٍ إبداعيَّةٍ، خاصةً إذا كان الإبداع هنا يرتبط بعوامل أخرى، منها البحث والدراسة لموضوع الفيلم التسجيليّ، وحرية الحركة في الشارع دون مضايقاتٍ. ورغم جماليَّات الفيلم التسجيليّ إلا أنه يرتبط بشكلٍ أساسيّ بالبحث والتنقيب لموضوع الفيلم، ما جعل البعض يظن أن السينما الروائية هي تحقيق الجمال، ثم تأتي في المرتبة الثانية السينما التسجيلية، وهو تصور قاتل.

المخرجة الكبيرة نادية كامل في حوارنا معها في هذا العدد، تقول: “السينما التسجيلية لا تُعرَض في التليفزيون الرسمي، وهذا دليلٌ على أن الأمر له علاقة بالسيطرة على الإعلام، ليس فقط بالتجارة والربح. هناك طبعًا سببٌ تجاريٌّ أن الأفلام التجارية قوامها السينما الروائية، الصناعة تتجه للروائي عندما تهدف إلى الربح، فيصبح مفهومًا إنفاق أموال طائلة، بغرض أن تأتي بالناس لتشاهد، إنفاق على النجوم والدعاية وخلافه. الجانب المادي التجاري هو ما يجعل السينما الروائية أكثر غزارة من التسجيلية أصلًا. ولكن الأفلام التسجيلية التي أثارت الانتباه لماذا لم تجد مساحةً للعرض في التليفزيون؟ ثمة حالة تعمية، نستطيع القول إن السينما التسجيلية تتعرض لمنع، ولو بقرارٍ غير مكتوب، وما يُعرَض منها في النهاية ليس له علاقة بالاشتباك مع الواقع، ممكن تكون سينما وصفية من أجل الدعاية السياحيَّة مثلًا، أو مطلوبة بالطلب من شركات كبيرة. شكل من أشكال الإعلانات الطويلة”.

يُكمِل المشهد المخرج الكبير هاشم النحاس، حيث يجيب في حواره مع مجلة الفيلم عن سؤال كيف ترى حاضر السينما التسجيلية في مصر الآن؟ فيقول: “للأسف، لا أشعر بالاطمئنان إزاء الحاضر؛ لأنه لا توجد مؤسسة أو جهاز يتبنَّى السينما التسجيلية في مصر. ولكن ما يطمئنني هو وجود المبدعين من الشباب في هذا المجال، وهم يشكلون موجةً غير مسبوقة في تاريخ السينما المصرية، وصنعوا أفلامًا جيدة نالت جوائز وتقديرًا بالداخل والخارج، ولكن الجمهور المصري لا يشاهد أفلامهم، وهذه مهمة ووظيفة المركز القومي للسينما الذي يُفتَرَض أن يقوم بدورٍ مشابهٍ لدور مركز السينما في فرنسا، لكن في الحقيقة هو لا يشبهه إلا في الاسم فقط، ومن دون دعم الدولة للفيلم التسجيليّ، من الصعب أن تنشأ حركةٌ تسجيليةٌ قويةٌ. أنا مع دعم السينما وليس تمويلها، فالتمويل الكامل مفسدة للممول نفسه “الحكومة” ومفسدة للمخرج أيضًا، أما الدعم فإنه يُشعِر المخرج بالمسئولية، فيهتم بفيلمه ويسعى لعرضه في المهرجانات، ولا يترك الأمر في أيدي الموظفين الذين لا يستطيعون استثمار هذه الثروة، ويحولوها إلى علب يصيبها الصدأ في المخازن”.


(3)
جمعية النهضة العلمية والثقافية “جزويت- القاهرة” لها فلسفة خاصة في دعم فن الصورة وثقافة السينما، وتدعيم العدالة الثقافية عبر إتاحة الفنون للكل (فالكل فنان، والكل يستطيع التعبير عن ذاته ومجتمعه عبر السينما، وأن صناعة الأفلام ليست بعيدةً عن الناس العادية، ويمكن تحقيقها بأقل التكاليف والإمكانات، المهم الفكرة، والشغف)، لذلك قررت جمعية النهضة تأسيس مدرسة للسينما التسجيلية في أسيوط، تشرف عليها المخرجة نادية كامل: “أكره جدًّا الطريقة التي تعلمت بها في المدرسة الطريقة الإملائية، فوجدتها فرصة لتجريب أفكاري في التعليم، كما أني ناقمة على الورش التي حاولت حضورها في التسعينات– كانت ورش لإهانة وقمع طالب المعرفة. أتعامل مع مدرسة أسيوط كأنني أدير مشروع فيلم مدته 16 أسبوعًا، به إنتاج وروح فريق، وتوزيع أدوار، فلم يكن لديَّ أي استعداد لرفض هذه التجربة”.

قالت بوضوح: “أسسنا المدرسة؛ لأننا نريد طرح مساحاتٍ لا بناء هياكل، لا أؤسِّس لهيكل له مقرّ وبه معدات وأدوات وله مقرَّرات ثم نبدأ العملية التعليمية، بالعكس نعمل بما هو متاح، نجلس لنعمل سويًّا بما هو موجود لنُخرِج شيئًا ما بداخلنا نبلوره، وما ينقصنا في الطريق نسعى لجلبه، ومن ثم المدرسة تكبر على قدر احتياجاتها”.

(4)

قلت سابقًا إنه من العدد الأول للمجلة في 2014 يضع مسئولو المجلة تجربةً مهمةً في تاريخ السينما العالمية، وهي أن تكون المجلة مُنطَلقًا لصناعة سينما مختلفة، ليست انعكاسًا للسينما الموجودة التجارية، وإنما خالقة لتيار سينمائيّ جديد يعتمد على الفكرة، ويطمح للحرية. وأن تتحوَّل مجلة الفيلم كما تحولت “مجلة السينما” لجان لوك جودار أو “كراسات السينما” لأندريه بازان، إلى بوصلة لسينما بديلة، همها التعبير عن هموم الناس، سينما فكرية تحتفل بالتغيير والثقافة، فلا تنتمي لتيارٍ شديد القبح يريد لعقول الناس أن تظل خارج قاعات السينما بحجة “التسلية”.

ولذلك تنشغل المجلة برفع الذوق الفني قدر المستطاع، وبتتبُّع تجارب الشعوب في إنتاج أفلام تعبر عن هموم الناس، وتهتم بالسينما التي تنشد التغيير والوعي والتنوير، خاصةً بعد هيمنة متوحشة للسينما التجارية، فيما بقيت السينما الجادة (ذات الدور التنويري) تكافح لإيجاد موطئ قدم في سوق السينما المصرية، وصار أمامها أن تكتفي بالاعتبار والتقدير في المهرجانات والعروض الثقافية، الأمر الذي يعني الاتجاه نحو الضمور، مثل البخار الذي يظهر قليلًا ثم يضمحلّ. وهذه إشكاليةٌ كبرى نحاول في مجلة الفيلم لفت نظر صناع الأفلام إليها، عبر الكتّاب المشاركين معنا في المجلة، خاصةً أن المجلة الآن تستكتب بعض الأكاديميين المتخصصين في السينما، فيقدمون ما يعرف بـ”الصحافة البحثية” الجادة، خاصة في هذا العدد والذي نخصصه للسينما التسجيلية في مصر، الآتي بعد عدد خصصناه عن صناعة السينما المصرية وكأنه ملف واحد، ورغم أن هذا العدد هو الأكبر حجماً في أعداد المجلة الإثنى عشر إلا أننا لم نستطع إعطاء كل الأسماء البارزة في عالم السينما التسجيلة في مصر حقها، أمثال يحيى حقي، وحسن فؤاد، وسميحة الغنيمي، وعلي الغزولي .. وغيرهم، وربما نخصص عدداً آخر لإستكمال ما بدأته مجلة “الفيلم” من البحث والتنقيب للقضايا المهمة في السينما المصرية المسكوت عنها والمهمشة إعلاميا لنعيد قرائتها مرة أخرى ووضعها للجمهور العام، وصناع الأفلام في إطارها التاريخي ومكانتها التي تليق بها.

(5)

تحيَّةٌ واجبةٌ

 

تشهد مجلة الفيلم عددًا عن عددٍ نقلةً في المحتوى والشكل؛ بفضل مشاركة نخبةٍ جديدةٍ تكتب للمرة الأولى معنا في المجلة: مي التلمساني، بدر الرفاعي، عصام زكريا، عاطف معتمد، محسن ويفي، رامي عبد الرازق، تامر عزت، الأب بورج أوليفيه اليسوعي، الأب يوسف عبد النور اليسوعي، وكذلك الأب وليم سيدهم اليسوعي (ثلاثة آباء يسوعيين يجمعهم حب الصورة، وعشق السينما)، فضلًا عن استمرار المشاركات المهمة والملهمة لمستشاري التحرير وكتّاب المجلة الذين أصبحوا مع إدارة المجلة جسدًا واحدًا.