رباب طلعت
37 عامًا انقضت على وفاة “أبو ضحكة جنان”، حسن فايق، في 14 سبتمبر 1980، بعد 15 عامًا من المعاناة مع الشلل النصفي الذي أصابه فجأة في لحظة صادمة تعرض لها المارة بعدما سقط فنجان القهوة من يده وهوى بعدها على الأرض، ليُسرع الطبيب المتواجد بالصدفة في المكان، لنجدته، فيكتشف إصابته بالشلل النصفي، الذي أبعده عن السينما والمسرح، الذي كان الشوق يدفعه لدخوله، فيبكي أمامه لعدم قدرته على شراء تذكرته، إلا أن منحه الرئيس الراحل أنور السادات، معاشًا استثنائيًا، لإعالته، وشكره على دوره الوطني، الذي جعله “الفنان الأعظم” من وجهة نظر الزعيم سعد زغلول.
89 عامًا قضاها حسن فايق بـ”الستر”، والتكتم على أسرار منزله، حيث كان “أبو البنات” مؤمنًا بأن حياته يجب أن تحتجب عن عدسات الصحافة والشائعات، حفاظًا على بناته، وأمهم، ما جعل العديد من محطات حياته، خاصة تلك التي قبل السينما غير متداول منها إلا ما رواه هو عن نفسه، حتى خفي على الكثيرين أنه قبل أن يكون ممثلًا سينمائيًا مشهورًا كان مونولجيست، أثار بكلماته، حماس الثائرين ضد الاستعمار، عام 1919، ودعم المرأة في طريقها للحرية، وانتقد العديد من المساوئ الاجتماعية.
“بسحر العين تركت القلب هايم ولا في الفكر غيرك كل ليلة أشوف طيفك وأنا صاحي و قايم”، يبدو أن تلك الحالة هي ما أصابت حسن فايق، في المرة الأولى التي استمع لها للشيخ سلامة حجازي، الذي سحر فؤاد الصبي، الذي اكتفى والده، العامل بمصلحة الجمارك، بتعليمه الإبتدائي، وقرر أن يحوله إلى تاجر، فانتقل به وبأسرته جميعها من الإسكندرية إلى حلوان، ليعمل الطفل في محل قريبه تاجر المانيفاتورة، ما أتاح له مشاهدة فنانه الذي أحب صوته قبل أن يراه، في “كازينو حلوان”، حيث يتجمع وجهاء البلد، ليقرر من وقتها أنه يصبح فنانًا، ويزيد هيامه بمشاهدة، الفرق المسرحية التي تتردد على حلوان مرتين أسبوعيًا، ويذهب مع أصدقائه على القهوة، مسحورًا يخبرهم بأنه “هاوي تمثيل”، إلا أنهم ليسوا هواه مثله، لكنهم أخبروه بأن القاهرة، بها العديد من تلك الفرق والتي من الممكن الالتحاق بواحدة منهن، إلا أن والده رفض ذلك تمامًا، لكنه فارق الحياة بعد ذلك بمدة قصيرة، ليقرر حسن فايق “الهروب إلى ميدان الفن” على حد تعبيره، ليخطو أولى خطواته الفنية، بالتمثيل.
ومن سحر الشيخ سلامة حجازي لسحر “عبد القدوس”، زميل “فايق” في الفرقة وأحد هواة التمثيل، الذي غنى أمامه مونولوج “حلوة حلوة دي العروسة”، الذي كان يُذاع في الإذاعة وقتها، ليتعرف الفنان على نوعٍ آخر من الفن، يجذبه، فيقرر أن يتعلمه، خاصة لإتقانه فن الزجل، حيث كان منذ طفولته، لا يجعل موقفًا يمر عليه مرور الكرام، بل يحوله لأبيات زجل، أصبحت فيما بعد مونولجات، يغنيها في كبار نوادي مصر، ويقدمها في المسارح كفقرة مستقلة، ليست بمشاركة زملائه كالتمثيل، الفكرة التي كانت تبهجه وقتها، حتى ذاع صيته، خاصة بعد نجاح أول مونولوج له “فقي القرافة”، الذي قرر أن يؤديه بعدما وقع الاختيار على شخصية “الفقي”، الذي يتقنها.
بعد النجاح الذي شهده مونولوج “فقي القرافة”، كان لابد من ابتكار شيء جديد، لتجديد عروضه، ما جعله يحول مشكلة انخفاض ثمن الكوكايين، الذي كان يصل سعره لجنيهٍ وأكثر وقتها، بشكل ملفت، ما جعله شيء دارج في أيدي العمال والأطفال الصغار، ما جعل الوضع كارثيًا على حد قوله، فقرر تحويل تلك الظاهرة إلى قصة يرويها بمونولوج ” شم الكوكايين”، الذي غنى فيه: “شم الكوكايين خلاني مسكين، مناخيري بتون، وقلبي حزين، وعنيا في راسي رايحين جايين، عاشرت ناس زي النسور، عيان بداء حب الظهور، علمهولي كده بالزور”، ليتحول بعدها لتناول وانتقاد المشاكل الاجتماعية في مونولجهاته.
قبل الوقت الذي يحقق فيه “فايق” نجاحًا كبيرًا في فن المونولوج، كان قد شارك في العديد من الفرق المسرحية، وكون أخرى، كان أحد أعضائها المنضمين إليها هو الفنان يوسف وهبي، الذي عُرف بعد ذلك بأنه تلميذ حسن فايق، والذي انفصل عنه بعدها ليؤسس فرقته الخاصة، إلا أن في ذروة شهرة “فايق” بسبب تقديمه للمونولوج مرفقًا بأحد الرقصات الغربية، وذهاب الجمهور لمشاهدته خصيصًا في أحد الصالات، لجأ له “وهبي”، ليتوسط لصاحبة الصالة التي يقدم فيها “فايق”، فقرته، لترفقه بها، ويشاركه فيها، نظرًا لإتقانه كتابة وغناء هذا النوع من الفن، وقدم لها أغنية “الكوكايين”، التي قدمها مع “فايق”، تزامنًا مع اشتعال قصة حبه بـ”كليوبي” الفتاة الأرمينية، التي هربت من مجازر الأتراب للأرمن وقتها، بحسب رواية “وهبي”، في مذكراته عن تلك الأيام، حسبما أكد كتاب “يوسف وهبي: سنوات المجد والضياع”، وهي الرواية التي تتنافى تمامًا مع رواية “فايق” وما روي عنه وقتها.
بالرغم من تضارب الروايتين، ونقص مصادر تؤكد أحدهما أو تنفي الأخرى، إلا أن وبرواية الإعلامية إسعاد يونس، في برنامجها الإذاعي “زي مابؤلك كده”، على “الراديو 90 90″، تميل الحقيقة لرواية “فايق”، حيث أنه كان أستاذ يوسف وهبي، الذي استاء من وصف الصحف له وقتها بأنه “تلميذ حسن فايق”، ما دفعه لحجب الأدوار المهمة عنه، بعدما قرر “فايق”، عام 1932 الانضمام لفرقته، في طريق بحثه عن كينونته الفنية، فهمشه، للدرجة التي جعلت الفنان يتركه وينضم بعدها لمسرح نجيب الريحاني، بعد موسم واحد مع “وهبي”، ليجد نفسه في الكوميديا، لكن رَفض “الريحاني”، لكتابة اسم أي بطل آخر في فرقته بجوار اسمه، أجبر “فايق”، على تركه، والالتحاق بالفرقة القومية برئاسة زكي طليمات، عام 1935، حيث أنه كان عزيز النفس، رافضًا لإذلاله أو إهانته، إلا أنه عاد له مرة أخرى، وظل يعمل معه حتى بعد رحيله، ليلتحق بعدها بفرقة إسماعيل ياسين، في الوقت الذي كان بدأ فيه العمل في السينما، التي وجد نفسه فيها، حيث شَكَلَ شخصيته الكوميدية المختلفة.
في خلال تلك الفترة، لم يتوانَ حسن فايق عن دوره السياسي، والثوري، حيث كان أحد أعمدة الثورة المصرية عام 1919، فقد كان له سبق أول عملٍ فنيٍ قومي، يدعو للتعايش بين المسلمين والمسيحين، وهو “أحمد وحنا”، الذي كان عبارة عن مجموعة مولوجات تحث المصريين على مقاومة الاحتلال الإنجليزي، حسبما ذكر الكاتب أشرف بيدس في كتابه “أبيض وأسود”، وهي المسرحية التي حضرها الزعيم سعد زغلول، صديقه المقرب، ليلقي خطبة بين فصولها للجمهور، في الفترة الذي شارك فيها في المظاهرات وسط الثائرين الذين حملوه على أعناقهم، وهو يهتف بهم.
لم تكن مونولجات مسرحية “أحمد وحنا”، عمله الفني الوحيد، في مقاومته السياسية، حيث كان له العديد منها والتي عبرت عن الحركة الوطنية، وسخر فيها من الإنجليز، مثل مونولوج “ننه ننه واسكت ننه نام، يا مشجع لفكرة تقبل والسلام، اصحى ياللي بتخدم، اصحى وقوم قوام، دول هيكلفتونا بشوية كلام”، والذي غناه وسُجل في الإذاعة وقتها، لاعتراضه على تصريح 28 فبراير، الذي أعلنت فيه بريطانيا من طرف واحد، إنهاء حمايتها على مصر، ولكنها احتفظت بحق تأمين مواصلات امبراطوريتها فيها، وحقها في الدفاع عنها ضد أي اعتداء أو تدخل أجنبي، بالإضافة إلى حماية المصالح الأجنبية والأقليات فيها، وإبقاء الوضع في السودان على ما هو عليه، حسبما جاء في كتاب “الضاحكون الباكون”.
ناضل “فايق” أيضًا مع المرأة نضالًا مختلفًا بمونولجاته، حيث ساند هدى شعراوي، في أول مظاهرة نسائية قادتها، حيث غنى لها: “ده وقتك، ده يومك، يا بنت اليوم، قومي اصحي من نومك بزياداكي نوم، وطالبي بحقوقك، اتخلصي من اللوم”، ولعل ذلك الموقف من المرأة، ليس غريبًا عليه، حيث أكد المقربين له، أنه طيلة الأربعون عامًا التي قضاها مع زوجته أم بناته قبل وفاتها، لم يرفض لها طلبًا أبدًا لإيمانه بأن المرأة كائن لطيف، يستحق الاحترام.