عائلتي، كغالبية العائلات المصرية، تحفظ للحزن قدره، وتعرف للفرح مكانته، وهي كغالبية العائلات المصرية أيضا تقدس جلال الحزن وتخشى جمال الفرح.
قبل سنوات ودعتنا سيدة البهجة أمي وغادرت منزل العائلة بعد أن وزعت على بناتها الثلاث بعضًا من صفاتها وإنسانيتها الرائعة، وفي فجر يوم شتوي مشمس قبل 9 أشهر غادرنا عمود الخيمة أخي الأكبر ثروت ليسكن جوار الأم المكناة باسمه.
وقبل أسابيع حمل “أبو ثروت” ما تبقى في البيت من بركة وغادرنا بعد أن زرع في أبنائه وبناته وأحفاده من الصبيان والبنات حبا بلا حدود وعطاءً بلا مقابل.
رحل “أبو ثروت”، الأب الحنون والعامل المكافح والصوفي النبيل، فأما الأب فبه أفتخر، وأما العامل فمنه أتعلم، وأما الصوفي فعليه أعتمد. رحل صانع العطر في أول ليلة من الليالي العشر.
بعد أيام من رحيله زار ابنة عمي الصغرى في المنام كان يرتدي ملابس الإحرام ويستظل بشجرة وارفة ويأكل من عنقود عنب وبجواره سيدة بوجه نوراني لم تتبين ابنة عمي ملامحها في البداية، وحين اقتربت عرفت أنها سيدة البهجة أمي، استيقظت ودعت لهما بالرحمة في صلاتها.
حين علمت خبر رحيله ذرفت دمعة وغطت وجهي ابتسامة طمأنينة تشبه ابتسامته لحظة شروده في أوقات التسبيح وتلاوة الأوراد. كان صوفيا حقا يسلك طريق الهدى ولا تضره قلة السالكين ويترك طريق الردى ولا تغره كثر الهالكين.
لا يجد نفسه بين من طالت لحاهم من أصحاب القلوب الغليظة، ويهيم عشقا فيمن يتضرع إليه دون خوف من نار أو طمع في جنة، وكانت جلسته في حضرة عترة البيت النبوي الإمام الحسين بالدنيا وما فيها.
حج واعتمر عدة مرات غير أن دموعه كانت تغطي وجهه، كلما آن أوان الحج وهو في بيته يتابع وقفة عرفات على شاشة التليفزيون فيدخل في حالة تضرع تأخذه إلى حيث يقف الحجيج فيردد خلفهم بصوت مبحوح “لبيك اللهم لبيك”.
أجل لقد لبى نداء ربه ورحل إلى حيث هو الآن في أيام الإحرام والتلبية، أما أفراد عائلتي، التي هي كغالبية العائلات المصرية، فما زالوا يعانون آلام الفراق ويحفظون للحزن قدره وهيبته.
أما الفرح بجماله فمؤجل إلى حين. هل يقبل “صانع العطر” و”سيدة البهجة ” و”عمود الخيمة ” تلك الحالة؟
لا أظن فثلاثتهم من أصحاب السعادة حتى وإن غادروا منزل العائلة إلى حيث هم الآن، وإحياء ذكراهم لا يكون إلا بغرس بذور الحب والعطاء والمضي في طريق السعادة الحقيقية بمنحها لكل من أحبوهم وعاشوا من أجلهم.
اللهم أرحمهم وسامحهم وامنحنا الطمأنينة والسكينة وراحة البال.