رغم اعتلال النظر، وطل الليل، والناموس الذي اندفع ليقتات من دمي النادر.. قرأت هذا الكتاب في ليلة. ولا أدري أي شجن ظل يتصاعد مع التقدم في القراءة. وكيف استحالت الطرافة المندفعة من الكتاب إلى ما يشبه مرثية لهذا الزمن وأهله.
أزعم أن قيمة أي كتابة مهمة، تكمن في كم الأسئلة التي تنطلق من ذواتنا أثناء القراءة أو بعدها. لذا، ففي المبتدأ لم تذهب ظنوني لكونها نوستالجيا لرجل يمتلك حنينا جارفاً للماضي، رغم أنها تؤسس لهذا المعنى، لكن يدفعني يقين حاسم في كون العودة للماضي بتفاصيله، أفكاره وأدواته؛ تحمل أكثر من إشارة. منها أن الماضي كان ضمنيا أقل قبحا من الراهن. على قاعدة { تمتعوا بالسيئ، فالقادم أسوأ} لذا، فحين نصل إليه كي نحكيه ونكتبه، نبدو وكأننا نؤسس لإدانة ضمنية لهذا الآن. أو نلوِّح يا ربما لعدم جدارته.
الغريب أن “عمر طاهر”- في ظني- قد خدع قارئه خدعة محمودة، تحدث إليه عن صنايعية ذلك الماضي – البعيد منه والقريب – ابتكاراتهم وإبداعهم، ريادتهم وأصالتهم، وجميل صنيعهم. لكنه كان يضمر توثيقا قد يبدو صعبا من جهة، ويبتغي أن يبدي عرفانا بالجميل لهؤلاء الذين أثروا في حياتنا أبلغ الأثر من جهة أخرى. لكن حتى الركون لهذه الأهداف رغم وجاهتها، أحسبه سيجرد الكتاب من قيمته الأسمى والتي تريد أن تقيم محاكمة لهذا الآن. الذي بات مرتعا للمدَّعين والمنتحلين والسُراق، المسوخ وعديمي الخيال والإبداع.
في هذا الكتاب وعلى عكس الدراما الملفقة في أفلامنا، وجدت إشارات تشبه من يؤسس حادثا كي يستعيد البطل الذاكرة. فجيل سينما الهمبرا، الهارب دوما من المدرسة يتذكر هذا السطر (طُبعت الترجمة بمعامل أنيس عبيد بالقاهرة). والمهموم بغواية البحث في التراث السينمائي مؤكد يدرك أن الكوميديا حين وصلت لفطين عبد الوهاب كانت في أبهى تجلياتها.
أتذكر هذه اليافطة المُهملة التي كانت تأتي على صدر عمارة متوسطة الارتفاع خلف مسرح إسماعيل يس بالإسكندرية والتي يتصدرها أسم”ماتوسيان” صاحب شركة الدخان، وعلبة سجائر في الأسفل تسمى”كوتاريللي معدن الفاخر”. وأقول على سبيل الجملة الاعتراضية: إن كل أسم ينتهي بـ “يان” هو لشخص أرمني بالضرورة.
أعترف أن “عمر طاهر” قد جاء بعد هذه السنوات كي يثبت تعرضي لاختطاف ذهني في طفولتي، فرغم حمى (ميكي وسمير) التي أسس عليها ريادة “ماما لُبنى” في تدشين كتابة جادة للأطفال، كنت أنا في زاوية أخرى. مولعا بألغاز محمود سالم صاحب المغامرين الخمسة{ تختخ ومحب، عاطف ونوسة ولوزة}.
في إشارة الكتاب لصنايعي الغناء فتحي قورة. تذكرت مقولة سمعتها من الشاعر الراحل محمد أحمد طه: اثنان فقط كانا يستطيعان كتابة البعكوكة من الجلدة للجلدة: سيد عقل(زجال سكندري معروف) و فتحي قورة. ولنا أن نتخيل كم الثراء والإنتاج الغزير، الذي كان يسيطر بدوره على الرجلين؛ كي يكتبا مجلة لا يخلو سطر منها من فكاهة وسخرية، حتى تظن أنك تقرأ نكتة طويلة وطازجة دائما.
ذكرني الكتاب بحفنة من مقولاتي المتطرفة.. منها { القرآن جاء مصر جميلا، وعبر من حنجرة الشيخ مصطفى إسماعيل فصار أجمل}. { صوت مصطفى إسماعيل ست حلوة. تدرك أن العيون تلاحقها، فتغيظهم بالدلال}. أما عن”النقشبندي” فلست أدري من أي فراديس قد هبط صوته. بل قد أستعير مجازاً لزجال لبناني( طليع حمدان) في وصف صوت وديع الصافي وأسقطه هنا على النقشبندي.. هل كان صوته، صوت ربّ بحنجرة إنسان؟!
تملكتني في فترة من عمري هواية جمع الكتب الدراسية، وقت كانت وزارة التعليم هي وزارة المعارف العمومية. وكنت أظن أن أفيه “سمير غانم” الساخر حال فشلت “شيرين” في طبخ ما يرضيه في مسرحيته “المتزوجون” مجرد أفيه. فلا يوجد يقينا”كتاب أبلة نظيرة” لكن عند العظيم “إبراهيم المفتي” أهم بائع كتب قديمة بمنطقة العطارين. وجدتُ سفرا وليس كتابا. تناولته من صندوق كان يأتي على قمته. يومها نهرني عم إبراهيم. والغريب كنا في نهاية الثمانينات. فاندهشت حين قال: أتركه، لن تتحمل سعره. وكان على ما أذكر وقتها خمسة وعشرون جنيها. ومنذ سنوات قريبة اقترب سعر هذه النسخة من المائتين.
من عجائب ولطائف هذا الكتاب أن “تومي خريستو” صانع البهجة والسعادة في صورة شوكولاتة. و”كلوت بك” مؤسس الطب الحديث في مصر يفجران مفارقة أقرب للعبث. فالشارع الذي يحمل أسم “كلوت بك” مؤسس الطب، صار من مؤسسات الدعارة في الثلاثينات والأربعينات. و”خريستو” صانع البهجة والذي كان يقيم بـ 13 شارع الفراعنة بالإسكندرية، تحول بيته إلى مركز من مراكز أمن الدولة. مؤكد لا تقدم الشوكولاتة لزوارها.
في طفولتي كان عندي حزمة من الأسئلة الإشكالية. لماذا الحكيمات في مدارسنا الابتدائية ملامحهن قاسية ومفرطة في التجهم؟ لماذا لا نرى السماء في لون آخر غير الأزرق؟ لماذا نشرب الشاي بعد الأكل وليس قبله؟ لماذا يبكي الأطفال حال جلوسهم بين يدي الحلاق؟ والأهم ما هي علاقة قسمة بالشبراويشي، وهذه الخمسات التي تأتي على زجاجات لا أدري من أين يأتيها العطر؟؟
منذ شهر كنت اعبر من حارة قديمة فوجدت محلا يبيعها. ومعها هذه الزجاجة التي كانت قدرا مقدورا ونحن في حضرة الحلاق: لافندر تريفل. فابتسمت في بلاهة واشتقت لأن أعود طفلا حتى مع البكاء في حضرة الحلاق الذي كان يرشها على شعري ووجهي بسخاء، وكأنها تأتيه من حنفية الحوض.!
توقفت في الكتاب عند موضعين كانا جالبين لشجن كبير. فلم أتوقف عند”ربات البيوت” وصوت صفية المهندس وعائلة مرزوق. وغيرها من تفاصيل هذه الفترة الصباحية. لكن تذكرت كيف كانت علاقتي بالراديو. والذي أحسبه: مؤسسة تثقيفية مكتملة الأركان. بل قد أتطرف هنا وأقول: إن تراجع دور الراديو في حياتنا قد أضر بقدرتنا على الخيال. ولنا أن نتخيل ألف ليلة وليلة، والتي كنا نسمعها.. مجرد نسمعها، فنسبح في تخيلاتنا كي نؤسس مع صناعها ذلك الجو الأسطوري الخيالي والحالم. وعلى الضفة الأخرى من النهر تذكرت هذا الجدل الجميل مع صديقي الراحل سعيد عبد الغني ونحن نناقش “دعاء الكروان” وكيف لرجل كفيف أن يكتب عن معنى الغواية، وهو لم يرها. وعلاقة النص الأدبي بمعالجة “بركات” السينمائية. وبالطبع توقفنا كثيرا ونحن نحاول ربط مشهد مقتل”هنادي” بالموسيقى التصويرية البديعة التي غطت المشهد لأندريا رايدر. موسيقى تؤسس للقدر، وتمنحنا ما يشبه المارش الجنائزي في أبهى ما تكون الفجيعة.
أثناء قراءة صنايعة الست{ الست أم كلثوم بالطبع} تقاطع حديث صاحبي “سعيد”- رحمه الله- والذي كان يبدو متحاملا جدا على “محمد القصبجي” الذي دائما ما كان يصفه بالرجل الرخوْ. والذي رفض في حسم أن يصدق أنه عبقري. وجلس في نهاية المطاف مجرد عوَّاد في فرقتها. والحقيقة أن القصبجي{15 إبريل 1892} و”سيد درويش”{17 مارس 1892} ولنا أن نتخيل على ضوء هذين التاريخين. كم كانا مُجايلين لبعضيهما. وحالتين موسيقيتين في آن معا. ففي حوار(زمن التجنيد) مع زميل لي دارس موسيقى كان مهموما بتحليل انتكاسة الرجل، أوجزها يومئذٍ في صدمتين أقنعاني في الحقيقة.. هما مكمن المأساة: موت سيد درويش الذي كان أيقونة الموسيقى في زمنه. وموت أسمهان الدراماتيكي، ذلك الصوت الذي كان يراهن القصبجي عليه بكلهِ. وليس لهذا السبب الذي يصوره البعض كمتيم بالست.
الموت هو الموت لم يظهر يوما على الناس سمح الوجه. نقي الطوية. هو مصيبة بوصف رب الموت والحياة. لكن بحسب الدراما في حياتنا أنها تعيد ترتيب الخسارة، وكذلك المشهد من قبل ومن بعد. هنالك سألت: هل مات عادل خيري كي تتبلور عبقرية فؤاد المهندس. أم أفكر بصوت عال مع عمر طاهر في كتابه وأسأل. هل مات “الضيف أحمد” كي نرى جيلا كاملا من الكوميديانات؟؟
إن صنايعية مصر ليس كتابا. بل هو أمتنان من الكاتب مغلف بالتوثيق، رغم كم الصعوبات الكبيرة التي من المؤكد قد واجهها كي يحصل على معلومات تغطي مرحلة يغطيها الركام، بقصد وبدون. ولأن الشيطان في التفاصيل أزعم أن الزج بصنايعية أتوا بعد يوليو 52 هو محاولة للابتعاد عن مغبة الإدانة لكل ما جاء بعدها. ودون التورط في تمجيد ما أصطلح على تسميته الأحرار بالعهد البائد. لكن الحقيقة أن صنايعية ما بعد يوليو معظمهم قد تلقى تعليمه قبلها. على كل الأحوال في جعبتي سؤال كنت أسأله وأنا أغلق الكتاب: مع هذه الرداءة والتفسخ والضياع وزخم اللصوص. هل سأطالع يوما كتابا بعنوان: فهلوية مصر؟!!