كنت قريبا من أصغر الحرافيش عمراً، المخرج الكبير توفيق صالح، الذى كان الأقرب لزعيم الحرافيش الكاتب الكبير نجيب محفوظ، كان الأستاذ توفيق رئيسا للجنة المشاهدة التابعة لوزارة الثقافة المنوط بها اختيار الأفلام التى تُمثل مصر فى المهرجانات، وبحكم عضويتى فى اللجنة كنت التقيه أحيانا مرتين فى الأسبوع، وكم كنت أسعد بتلك المناقشات السينمائية.. قامة وقيمة مثل الأستاذ توفيق صالح تستحق قطعا الاستماع والتأمل، كثيرا ما كان يغضب الأستاذ توفيق مما يُكتب عن نجيب محفوظ بعد رحيله 2006، ممن يصفون أنفسهم بالأصدقاء لأنه مجافٍ للحقيقة.
كنت أقول له أنت آخر الحرافيش وشاهد على تلك الواقعة، لماذا لا تصحح؟ فكان يرى أنها معركة وهمية، والكذب سيسقط بالتقادم مع الزمن.. مع الأسف، الواقع منح بعض الأكاذيب طعم الحقيقة، وهكذا قرأت الرسالة الأولى التى كتبتها ابنة كاتبنا الكبير، ونُشرت أمس على صفحات (الأهرام)، وهى تروى الكثير عن أبيها، كان من المهم أن تخرج أم كلثوم للضوء، ولقد علمت أنها كثيرا ما حاولت، ولكن هناك من يريد للكذب أن يستشرى، فكانوا لا يسمحون لها بالنشر.
نعم.. الأسرة لا تعرف سوى جانب واحد من الصورة، ولا تملك كل الحقيقة، وكما أنه لا يجوز عند الاختلاف فى واقعة أو حدث أن نعتبر فقط العائلة هى المرجعية الوحيدة، إلا أن إقصاء العائلة بحجة أنهم خارج الزمن يجافى المنطق. ما فعلته منى الشاذلى فى برنامجها (معكم) على قناة (سى بى سى) بتقديم أم كلثوم للرأى العام لعب دوراً أساسياً فى تصحيح الصورة الذهنية الخاطئة عن الابنة، التى كانت (الميديا) تصفها بأنها متزمتة دينيا وفكريا، على العكس رأيتها واسعة الأفق، سريعة البديهة، كل ما فعلته أم كلثوم أنها رفضت مع الراحلتين، أمها وشقيقتها فاطمة، نقل رفات نجيب محفوظ إلى مقبرة تقام فى المتحف، إننى أقدر قطعا حق الورثة فى الرفض، لأن هذا يمثل بالنسبة لقناعتهم تجاوزا دينيا، رغم أننى أرى أن قامة نجيب محفوظ العالمية تستحق من الأسرة الموافقة، كما أننى لا أجد أبدا سببا لرفض تقديم رواية (أولاد حارتنا) فى عمل فنى «فيلم» أو «مسلسل»، حيث كان هذا هو مشروع المخرج خالد يوسف، رغم يقينى أن نجيب محفوظ كان سيرفض.. التمس نجيب محفوظ العذر لمن حاول اغتياله واعتبر نفسه هو وكل المثقفين مسؤولين عن عدم وصول رسالتهم إليه، تقديم الرواية فى عمل فنى يراه الملايين كان سيثير حفيظة التيار الدينى المتزمت، بينما نجيب محفوظ كان بطبعه لا يريد الدخول فى مثل هذه المعارك، لو كان الأمر بيدى لتحمست للمشروع، ولكن علينا أن نُطل على الأمر أيضا بزاوية الأسرة.
من المؤكد أن ابنة كاتبنا الكبير لديها الكثير، لقد حاولت مع الأستاذ توفيق صالح أن يسجل مذكراته عن الحرافيش القدامى، وكان بينهم عمالقة بحجم صلاح جاهين وأحمد مظهر وبهجت عثمان والروائى عادل كامل والساخر محمد عفيفى، وغيرهم، الذين كان يلتقيهم الخميس من كل أسبوع، كان توفيق يقول تلك حكايات خاصة ولا يمكن أن أبوح بها، هكذا كانت مبادئ الأساتذة الكبار.
سعيد بالرسالة الأولى لابنة كاتبنا الكبير التى أكدت فيها مجددا تزوير قلادة النيل، وسوف تكشف فى رسائلها القادمة عن مزيد من التزوير فى حياتنا الثقافية!.