لم يحدث هذا القدر من تشويه الوعي الفنّي الثقافي العربي مقدار ما حدث مذ انتشرت كالوباء برامج الهواة عند بدايات العام 2003. قد يناقش البعض بأنَّ برامج الهواة كانت موجودة منذ سبعينيات القرن الماضي مع البرنامج اللبناني المعروف “ستديو الفن”(قدمته آنذاك المؤسسة اللبنانية للإرسال مع المخرج القدير سيمون أسمر)، لكن “الاستديو” لم يكن “مفرّخاً” للهواة، بل ببساطة هو عبارة عن “محطة” ظهور لنجومٍ سيغزون الساحة (ماجدة الرومي، وائل كفوري، وليد توفيق والكثيرين غيرهم)، فضلاً عن لجنةٍ تحكيم كانت تمتلئ بنجومٍ كبار لديهم بصماتهم الحقيقية في عالم الفن والصوت والموسيقى وهو أمرٌ تفتقده –وتفتقده- بشدّة برامج الهواة الحالية على اختلاف مشاربها.
فلنسر معاً خطوةً خطوة يقوم برنامج Arab Idol محبوب العرب –كمثال نأخذه- على تقديم هواةٍ متنوعين، ولا نقول بأنَّ هؤلاء الهواة لايمتلكون أصواتاً جميلة بل بالعكس بعضهم يمكن اعتباره موهوباً بحق لكن ما ليس مقبولاً البتة هو لجنة التحكيم الموجودة، حيث لايعرف للجنة مثالاً أي “مرجعية” فنية من أي نوع. كيف يمكن اعتبار “نانسي عجرم” مثالاً مرجعية فنية؟ ما هي الأغنية “المصيرية” التي قدّمتها نانسي كي تصبح “صرحاً” ثقافياً وحضارياً يمكنه “قياس” الآخرين (أو يمكن قياس الآخرين عليه)؟ هل قبل أغنية “أخاصمك آه” (الأغنية سبب شهرتها؟) أم بعدها؟ كم تعرف نانسي عن الموسيقى؟ عن بنيتها التركيبية؟ الأمر ليس مهماً، المهم هو الشهرة التي تحظى بها المغنيّة اللبنانية والتي تجعل المشاهدين متأوهين راغبين في متابعة البرنامج.
ماذا عن وائل كفوري أيضاً؟ لا نقاش في أن وائل –كما نانسي- يجيدان الغناء، لكن ماذا عن “الأستذة”؟ هل يمتلكان ما يؤهلهما مثلاً للنقاش مع محمد عبدالوهاب؟ ماذا عن عبدالحليم حافظ؟ فلنخفّض توقعاتنا أكثر فأكثر ماذا عن النقاش مع كارم محمود؟ إذا ليس هناك أستذة البتة. ماذا عن حسن الشافعي؟ الملحن الشاب معروف من خلال أغنيات مثل “وياه” (لعمرو دياب) ويحلمون (لعبد المجيد عبد الله وقد احتاج مني كصحافي للبحث كي أعرف ماهي الأغنيات التي لحّنها) هل يمكن اعتبار الشافعي -بعيداً عن شكله الوسيم- موسيقاراً للأجيال مثالاً يستحق أن يتعلّم أحدٌ على يديه؟ بمعنى هل يمكن مقارنته بالقصبجي أو بالموجي أو بأهم وأخطر ملحني العصر بليغ حمدي أو بالأخوين رحباني مثالاً؟
إذاً نحن متفقون تماماً بأنَّ لجنة التحكيم في هذا البرنامج ليس لجنة تحكيم، وهي على فكرة من أفضل اللجان مقارنةً بغيرها (بعض البرامج أحضرت مثالاً إليسا كي تكون محكّمة، وبعضها أحضر هيفاء وهبي وأحلام، فيما أحضر آخر سيرين عبد النور –بكل صدق- لتحكّم في برنامج لهواة التمثيل؛ وطبعاً لكم أن تتخيلوا كمية الإبداع الذي من الممكن أن تعلّمه “سيرين” للهواة خصوصاً للباع الطويل الذي تمتلكه في المهنة).
سيناقش البعض بالتأكيد فكرة أنَّ لكل عصرٍ أوانه ومغنيه ومؤديه، وهذا أمرٌ طبيعي، لكن ما يفوت هؤلاء هو هل هذا هو مآلنا؟ هل هذا هو نحنُ؟ أي بمعنى أصح هل يمكن اعتبار هؤلاء “المقياس” أو “الميزان” الذي يمكن للآخرين السير عليه أو الإرتفاع فوقه؟ هل هؤلاء هم أم كلثوم وفيروز وعبد الحليم وعبد الوهاب العصر؟ هل يمكن نقاش قيمة هؤلاء الفنية بعد عصرين أو ثلاثة من الزمن؟ بلغة أبسط: هل ستبقى أغنية “أخاصمك آه” لتعيش عقدين من الزمن؟ أم أنها ستتحول إلى أغنية “عشفافي مرمغ شنباتك” (لمطربة السكس كما كانت تلقّب) مها عبد الوهاب وينساها الجميع لولا اسمها –أي الأغنية- اللمّاع؟
النقاش الثاني والشديد الأهمية هو الأمر الذي بدأنا فيه: تقدّم هذه البرامج هواةً لا يرتفعون إلا بمقدار أقل أو بإحاطة عن النجوم أنفسهم، فكيف سينتج “نجومٌ” (لا أكثر ولا أقل وبمعناها السلبي أو الإيجابي وللقارئ أن يختار) من هذا الطراز مطربين ومغنيين حقيقيين يعيشون إلى الأبد إذا كانوا هم لا يضمنون لأنفسهم مكاناً في تلك الذاكرة؟ فأفضل الموجودين حالياً أي كاظم الساهر، يعاني خلال آخر عشر ألبومات لتقديم أغانٍ تعيش عاماً كاملاً دون أن ينساها الجميع؟ (سؤال اختياري: من يتذكر أغنية “خارقة” من آخر خمسة ألبومات للساهر؟ أغنية يمكنها العيش كـ”عبرت الشط على مودك”، أو “مدرسة الحب” مثالاً؛ قد يجد، وقد لايفعل، ذلك أيضاً –كما اشرت- اختياري).
النقطة الثانية هي أنَّ هذه البرامج لا تقدّم أي دعم حقيقي لهذه المواهب بل إنّها سرعان ما تترك الموهبة عند بداية الموسم القادم من البرنامج وإذا ما حصل أن “نبغت” إحدى تلك المواهب فستقع في فخ الشعراء والملحنين عينهم، أي أولئك الذين يتعامل معهم ذات الفنانين من لجنة التحكيم: وهنا بالطبع سيأخذ “النجم”-من لجنة التحكيم- حصة الأسد، وسيحصل “الهاوي الشاب” على موسيقى وكلمات “درجة تانية” من هنا –وببساطة- لا يظهر الهواة بأغانٍ ضاربة إلا فيما ندر.
(سؤال اختياري آخر: هل يمكن عد عشر أغنياتٍ ضاربة وقادرة على الاستمرار لهواة خرجوا من برامج للهواة؟).
“تعربش” برامج الهواة على قنواتنا الفضائية وتقدّم أناساً بأصواتٍ جميلة يغنون للتسلية فحسب، للأسف. لا يبنون حضارةً أو ثقافة موسيقية من أي نوع، فهذه البرامج ليس محضّرة/مجهّزة لتقديم ذلك. ذلك أمرٌ أكيد.