لن تعد إدارة المؤسسات الصحفية، بشكلها التقليدي- الذي يقوم على وفرة المال- نموذجا للبيزنس، تشد جاذبيته صناع الصحف، للعمل في مدار فلكه، خلال المستقبل، لكنها ستصير حتما ظاهرة، أكثر تعقيدا فكريا ومنهجيا، تستحق الغوص في بحارها وإطلاق عنان التخيل لسمائها، هل يرى البعض المبالغة أو التهويل في ذلك؟
دعنا نوضح الأمور أكثر، فباعتبار أن تأسيس صحيفة عادية، لامؤسسة متكاملة، لا يحتاج سوى ضخ أموال، تمكن القائم عليها، من توفير موقع إلكتروني، وعددًا من المحررين، وكبشة من الأخبار – ذات المشاهدات المرتفعة- إضافة إلى انتشارها على شبكات التواصل الاجتماعي، لتقديم التهاني على انضمام وليدة جديدة لبلاط صاحبة الجلالة.
فلا شيء يثير مخاوف القائمين على الصحيفة، على مستقبلها، طالما وجدوا مصادر التمويل، والتي تعد الإعلانات بشكلها التقليدي -سواء مطبوع أو مرئي على شبكة الإنترنت- أبرزها على الإطلاق.
لذلك فإن حرص الصحف، على الإعلانات المطبوعة، دفعها إلى وضع ميزانيات خيالية، لمساعدتها في توفير قائمة عاملين، تشمل موظفي مبيعات، لتوزيع الإعلانات، وفنانين جرافيك لتصميمها، ومحاسبين لجمع المستحقات، بالإضافة إلى الجهد الإداري اللازم، للإشراف على كل هؤلاء، لكي تمكنها من تحقيق الإيرادات في نهاية الأمر.
ربما لا يزال ذلك ضروريا، بالنسبة للصحف “القومية” الكبيرة، مثل “نيويورك تايمز”، بفضل القدرة على بيع إعلانات مميزة أونلاين، أو “الأهرام” في مصر، لعملها – إلى جانب فرع الدعاية والاعلان – تحت مظلة المؤسسة.
مما يدفع الصحف، نحو التخلص من العملية السابقة برمتها، من خلال الانتقال إلى الاعلانات الرقمية، عن طريق استخدام شبكة إعلانات “ad network”، والتي سيتتبعها بعض المشكلات، خير مثال على ذلك، تشويه شكل الصفحات.
في الوقت نفسه، يعيقها تعاظم استهلاك الأخبار، عن طريق الهاتف المحمول، بما يساهم في تراجع القدرة على جلب الإيرادات، من شبكات الإعلانات الرقمية، وهو ما يجعل الاعتماد على الإعلانات، على شبكات التواصل الاجتماعي، أفضل الخيارات، على الرغم من وجود خيار أفضل، وهو عدم نشر إعلانات نهائيا.
تساؤلات كيف، لماذا، متى، علام يدل ذلك، يقدم ردودها نموذج البيزنس القائم على الاشتراكات فهو لا يقتصر على خفض النفقات فقط، بل يمنح “خبرة استخدام أفضل” – وهي نقطة جذابة بوجه خاص – لأنه ينبغي الوضع في الاعتبار، أن المستخدمين هم أنفسهم “العملاء”، الذين سيقومون بدفع النقود.
منحنى تعدد مزايا الاشتراكات الرقمية لا يتوقف صعوده عند انخفاض تكلفة إدارتها عن تكلفة اشتراكات الصحف التقليدية فقط، بل يستمر تقدمه ليؤكد على صداقتها للمستخدم، من خلال تحول أقسام الأخبار المحلية، بأكملها إلى شخص واحد، يدير خدمة العملاء، في اشتراكات ذاتية الخدمة، ويقوم ذلك الشخص بتلبية حاجة الحسابات، وهذه هي كل الفكرة.
تعود حالة من الإبهام مرة أخرى للسيطرة على الموقف، في ظل كثرة التساؤلات، حيث يعد تحديد ماذا تعني الاشتراكات بدقة أولا، أمر بالغ الأهمية للقراء، لمعرفة لماذا عليه أن يدفع نقودا؟ تبرعات هي، أم مقابل منتج، وإذا كان منتجًا فما هو إذن؟ مقال؟ في الحقيقة هو ليس أي مقال والسلام، بل بالأحرى يدفع المشترك المال، من أجل أن تصله قيمة محددة جيدا، بشكل منتظم.
بتدقيق النظر، سنجد أن عملية الاشتراكات، تحتاج لعدة إيضاحات، متعلقة بدفع النقود، مقابل التزام مستمر من قبل الصحيفة بإنتاج محتوى، وليس عملية دفع واحدة، مقابل قطعة واحدة من المحتوى.
فيما تشمل، مزايا خدمة الاشتراكات، التوصيل المنتظم، والذي يوفر جهد القارئ، في البحث عن المحتوى، فيصل المحتوى إلى القارئ مباشرة، سواء بالبريد الإلكتروني، أو بالـ bookmark للموقع، أو من خلال تطبيق app، مع تحديد قيمة المحتوى جيدا، خاصة أن القارئ يحتاج إلى معرفة المنتج، الذي سيحصل عليه مقابل نقوده.
لكن على الجهة الأخرى، تواجه الصحف ثلاثة تحديات، في الانتقال إلى الاعتماد على الاشتراكات، بداية من مطالبة القراء بدفع المال، مما يجعل الكيف أهم من الكم، إضافة إلى أهمية النسبة، لأن الإصدار التي ينتج مقالا واحدا قيما يوميا، حول موضوع محدد جيدا، سوف يجذب اشتراكات بسهولة أكبر، من إصدار ينتج ثلاثة مقالات قيمة، وعشرين لا قيمة لها، على الرغم من تغطيتها، تشكيلة واسعة من الموضوعات.
فمعظم الصحف المحلية، المبنية على الإعلانات، تحتاج لإدارة محتواها، حول تلك الإعلانات، وبالتالي فهي تهدر مواردها المحدودة، في إنتاج “حشو” يومي، رغم أن تلك الإعلانات، لم تعد موجودة.
كما يمثل إذابة الفواصل، بين الجانب التحريرى والبيزنس، تحدي أخير، لتطبيق عملية الاشتراكات، على أرض الواقع، بسبب معارضة صناع الصحف الحالية، على الرغم من سهولة تنفيذه، لأنه مطالب بتحقيق إيرادات مستمرة، من أموال القراء، بما يعني فهم اهتمامات هؤلاء القراء، بجانب أن ينشغل كل عضو في هذه المنظومة، بمسألة البيع مما لايدع أى مجال للشك، أن التركيز على خبرة المستخدم، وعلى خلطة المحتوى، سيكون محور توجه الصحف المستقبلي.