نقلا عن “جريدة الشروق”
فى إحدى ليالى شتاء 1997. كنا نتابع، كضيوف، تنفيذ شريف عرفة لمشهد عند كورنيش النيل، من «اضحك الصورة تطلع حلوة» الذى عرض فى العام التالى، وحقق نجاحا ملحوظا.. على غير العادة، توقف أحمد زكى فجأة، أو الأدق، تأخر فى الرد على كلام يوسف عيد، الواقف فى مجابهته.. أحمد زكى، بدا منشرح الصدر، مبتسما، يكاد يحتضن، بعينيه، يوسف عيد.. شريف عرفة، بهدوء من دون ضيق أو كدر، أعاد تصوير المشهد.
عقب الانتهاء، أرجع أحمد زكى ما حدث إلى أن طريقة أداء يوسف عيد، الخلابة، المباغتة، أخذته بعيدا عن التركيز، جعلته مشاهدا بدلا من أن يكون مشاركا.. بإعجاب وتقدير رفيع، صادق، استطرد أحمد زكى: يوسف عيد، يملك طاقة فنية هائلة، فاجأنى بشجنات انفعالية متغيرة، متوالية، انفجرت فى وجهى.
شاهدت الفيلم مرتين.. فى المرة الثانية، ترقبت المشهد الوحيد، الطويل، الذى ظهر فيه يوسف عيد، مرتديا «سويتر» متنافر الألوان، واضعا «كاسكيت» على رأسه، ممسكا بآلة تصوير فوتوغرافية، كأنها جزءا منه، شأنها شأن النظارة السميكة الزجاج.. بعد أن انتهى توا من تصوير فتى وفتاة، اندمج فى المناداة، بمودة، على من يريد التصوير.. أحمد زكى، يقترب منه، يسأله «حضرتك مصوراتى».. يوسف يلتفت نحوه، يرى الكاميرا، يضحك قائلا «الله.. إنت زميل»، وبمهارة، يدير وحيد حامد، بينهما، حوارا مختزلا، مكثفا، يبدأ ناعما، فالمصور الوافد من أحد الأقاليم، المرتبك من المدينة، يقول إن هذا المكان هو منطقته، ويطلب، على استحياء، من يوسف عيد، ممارسة عمله بعيدا.. عندئذ، يبدو أحمد زكى كما لو أنه لمس عصبا عاريا عند الآخر، فالمسألة تتعرض لـ«أكل العيش». لكن، يوسف عيد، لا يطلق انفعاله دفعة واحدة، ذلك أنه، كابن مدينة، وابن بلد، وصاحب خبرة فى مثل هذه المنازعات، يلجأ إلى المنطق.. يسأل عن اسم الكريم، يعرف أنه «سيد»، يشرع فى تلقينه درسا، على طريقة أسئلة وأجوبة.. يسأل، بما يشبه الحياد «الكوبرى ده اسمه إيه». أحمد زكى، الريفى، لا ينتبه إلى مسار الحوار. يجيب «كوبرى قصر النيل».. يعلق يوسف عيد، بجملة لا تخلو من إعجاب مزيف «الصلاة على النبى»، يلحقها بسؤال آخر، مستكملا الكمين «وده، كورنيش إيه».. من دون انتباه وبتلقائية، يقول أحمد زكى «كورنيش النيل».. هنا، تتغير نبرات صوت يوسف عيد، تغدو حاسمة، قاطعة، ذلك أنه، بأريحية، تحول من طرف فى خلاف، إلى ما يشبه القاضى، وها هو يلقى غريمه، المندهش، درسا «يعنى لا كوبرى سيد.. ولا كورنيش سيد.. الحكومة مش عملاه كده لأى حد يشتغل منه.. ده بتاعنا إحنا.. إحنا اللى نشتغل فيه».. يتعمد يوسف عيد، المسيطر على أدواته التعبيرية، الاقتراب من وجه أحمد زكى، مع حركة الكفين، يلفهما فى الفضاء، كما لو أنه يؤكد ملكية المكان للعامة، ثم يرفع هامته، فاردا صدره، بما يشبه إعلان انتصار.
أحمد زكى، المأخوذ، الحائر، يحاول تغيير مسار الأمور، بكلمتى «طب الأصول».. عندئذ، يتصاعد الغضب سريعا، متضاعفا، ولأول مرة ترتفع عقيرة يوسف عيد، قائلا «إنت ما عندكش فهم»، وتنتابه حالة من الاستعداد على خوض معركة «أكل عيش»، وبعد أن يكاد يمزق «السويتر» المتنافر الألوان، بل يقوم بدفع أحمد زكى، من إبطه، آمرا، أو مطالبا، بالذهاب بعيدا.. وفعلا، ينسحب أحمد زكى، وما أن يختفى حتى يستكمل يوسف عيد استمالة زبونه بصورة أخرى «أحلى من اللى فاتت»، وقد علت وجهه ابتسامة عريضة، مشرقة، مناديا على من يريد التصوير.
يوسف عيد، مصرى تماما، قادم من الشوارع، والحوارى، يعيش، على الشاشة، فى أحراش الحياة، صاحب وجه يتسم بطابع كاريكاتورى: أنف كبير، فم واسع، حواجب كثيفة، لثغة فى حرف الراء.. لم يكتب له أن يكون بطلا، لكن موهبته تتجلى فى أدواره القصيرة التى يظهر فيها كالشهاب، يخطف الأبصار، ثم يختفى سريعا، تاركا لمعة تظل مضيئة فى الذاكرة السمعية والبصرية، فصوته، خاصة فى المواويل، يتمتع بالنفس الطويل، فضلا عن نوع فريد من الخشونة الرجولية المحببة، ويمكنه، بلمسات خاصة، إثبات حضور الشخصية الهامشية، العابرة، التى يؤديها، ويحولها إلى كائن إنسانى مكتمل، يوحى بتاريخه، ماضيه، موقعه الاجتماعى، همومه، تطلعاته.. وهو، يعبر عن الشخصية التى يؤديها، بروح صادقة، قوية، مستخدما ملامح وجهه، وصوته، يديه، حركة الجسم كله، على نحو مبتكر، مدهش، جعل فناننا النادر، أحمد زكى، يتوقف للحظات، كى يتأمل، بإعجاب، أسلوبه الممتع، المتميز، فى الأداء.