فاتن الوكيل
العاديون هم الأبطال، هم رمانة الميزان وقت الشدائد والحروب.. يُقررون التضحية فيقهرون أعداء الحرية ولصوص الأوطان المعتدين على التاريخ والمستقبل. هؤلاء من تُكتب عنهم القصائد والروايات وسيناريوهات الأفلام. لا تخلد أسماؤهم -رغم استحقاقهم ذلك- لكن تُخلد صفاتهم وملامحهم وطبقتهم الاجتماعية وهذا هو دور الكتاب والشعراء.
أصدق ما يُقال أكثره عفوية، ولا عفوية أكبر من اندفاع الفرحة بالنصر، ولا اندفاع أقوى من أن يجد الشخص ما يقوله ليعبر بإيجاز عن مشاعر الملايين، ولا قول أفضل من تعبيرات مكثفة ومعبرة بدقة من روائي أو شاعر.. من هنا نسترجع معكم اللحظات الأولى من مشاعر الفرحة بنصر أكتوبر، لكن بأقلام كتاب وشعراء كبار، حولوا الحرب إلى “مناسبة سعيدة” انتظرها الشعب العربي لسنوات.
الكاتب توفيق الحكيم كانت رغبته عقب ساعات من إعلان الحرب، أن يجد ما هو أكثر من الكلمات التي عاش حياته يكتبها، ليُشارك به في المعركة، حيث قال وقتها: “تواق إلى المشاركة في عمل ما في معركة الشرف أكثر من مجرد كلمات على الورق، فقد اجتاز وطننا الكلام إلى الفعل”.
الأديب نجيب محفوظ استعار عنوان “عودة الروح” من “الحكيم” قائلا: “ردت الروح بعد معاناة الموت ست سنوات، روح مصر تنطلق بلا توقع، تتعملق وتحلق بلا مقدمات، فإلى الأمام فقد ردت الروح إلينا، الروح والعصر والمستقبل”.
ولأن نصر أكتوبر كان معركة الكرامة ليس لمصر فقط، ولكن لسوريا أيضا، شريكنا الأساسي في الحرب -مهضوم الحق في الإعلام- نجد الشاعر السوري نزار قباني يعبر بكلمات تمزج فرحة النصر بمحاولات الشفاء من ندوب هزيمة يونيو “حزيران”.. ساعات عاشها نزار وهو يُحاول مصالحة جواز سفره، بولادة جديدة له “تحت الجسور العائمة التي علقها مهندسو الجيش المصري” كما قال، ولو لدقائق قبل أن ينقلب الوضع مرة أخرى إلى المرارة في الجولان، فيقول:
“ولد نزار مرة أخرى ميلادا جديدا وبعثا جديدا في السادس من أكتوبر، قبل السادس من أكتوبر 1973 كانت صورتي مشوشة وغاشية وقبيحة.. كانت عيناي مغارتين تعشش فيهما الوطاويط والعناكب.. وكانت علامتي الفارقة المسجلة في جواز السفر هي أنني أحمل على جبيني ندبة عميقة اسمها حزيران. أما عمري في جواز سفري القديم فقد كان مشطوبا لأن العالم كان يعتبرني بلا عمر، واليوم 6 أكتوبر 1973 يبدأ عمري.. اليوم فقط ذهبت إلى مديرية الأحوال المدنية وأريتهم صك ولادتي التي حدثت في مستشفى عسكري نقال يتحرك مع المقاتلين في سيناء والجولان فاعتبروني طفلا شرعيا وسجلوني في دفتر مواليد الوطن، ولا تستغربوا كلامي فأنا ولدت تحت الطوافات والجسور العائمة التي علقها مهندسو الجيش المصري على كتف الضفة الشرقية…”.
ومن الأشعار التي كُتبت عقب النصر، قصيدة للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، بعنوان “ثلاث أغنيات للوطن”، جاء في ختامها:
“لقد قام..
قولوا إذن تلك معجزة
لا، ولكنه وطن
وطن لم نكن نعرفه
وطن كان مختبئا في الدماء البعيدة، في جسد الأرض”
أما الشاعر فاروق شوشة فيؤكد في قصيدته “اليوم السابع”، أن حرب 1967 أو “الأيام الستة”، لم تنته، لكنها استمرت حتى “اليوم السابع”.. 6 أكتوبر 1973، ويقول في ختامها:
“اليوم يعود إلى الأشياء مذاق الأشياء
يُصبح للكلمات مذاق الكلمات البكر
وتعود الروح لمصر”
مرة أخرى نعود إلى “الشخص العادي” الذي تُكتب من أجله الروايات والقصص، فنجد قصة “أشياء حقيقية” لفتحي سلامة التي نُشرت عام 1975، وعبرت وقتها عن رغبته في التأكيد على أن الشهيد هو “شخص عادي” وأن الشعب وحده القادر على صنع البطولات.. “فتحي” أطلق على عمله لقب “تحقيق روائي”، حيث نقل من الواقع العبارات العامية ومواقف خاصة بشهيد قابله في الحقيقة.
أبرز ما نستنتجه من هذا “الاندفاع الأدبي” الذي رصدناه من كتابات الأدباء والشعراء، جراء فرحة النصر، هو أن الهزيمة لدى هذا الجيل، لا تعود بالزمن إلى الوراء، إنها توقفه فقط، والنصر يعيد الحياة إلى مسارها الطبيعي، وهو ما عبّر عنه الكاتب جمال الغيطاني قبل النصر كتابه “أرض أرض” الذي صدر عام 1972، عندما صوّر صاروخا صهيونيا يضرب آلة الزمن ويوقفها عند الساعة التاسعة والنصف. هو صاروخ الهزيمة إذن الذي ضرب مصر في 5 يوينو 1967، وعلى المجتمع أن يزيل آثار العدوان، ليس فقط عن طريق العمليات العسكرية، ولكن بنفض آثار التراخي المجتمعي.
المصدر:
كتاب “الرواية وحرب أكتوبر” لـ يوسف الشاروني
ملحوظة: الشاروني قسّم ما أسماه “أدب أكتوبر” إلى قسمين، الأول ما كتبه الأدباء المحترفون، والثاني أدب المقاتلين الذين كتبوا بدافع انفعالهم.